التقيتُه أول مرة بفناء دار العلوم، منذ أكثر من عشرين سنة مُمسكا بعصاة يتوكأ عليها ليس عجزا بل خُيلاء، مُلتفعا بكوفية زادته إلى جانب البهاء وقارا، أشعث الرأس، تُشع عيناه ذكاء وإشراقا. تملكنى فى أول الأمر من هيئته الوجل، وبالسؤال عرفتُ أنه تتلمذ على يد العقاد، ومن شدةِ تأثره به، ماثله لحد التقمص هيئة وهنداما، مشية وحديثا، أدبا ولغة، فصاحة وبيانا. لم تمض إلا أيام قليلة حتى جمعتنى به قاعة الدرس، فإذا بنا يُطبق علينا سكونٌ وصمت إنصاتا وانبهارا بهذا الجبل الأشم الذى انسدلت من بين شفتيه قصائدُ وأبيات، زادهما منطقه العذب وصوته الرخيم الممتلىء قوة ودفئا جمالا إلى جمالهما. كان صوت أبى همام وهو يُلقى قصائده، يُزلزل جنبات القاعة، ويعود بك إلى زمن المتنبى وبشار وأبى تمام، وكانت محاضرته أشبه بسوق عكاظ ، التى يفد إليها الأدباء والشعراء من كل حدب وصوب؛ لينشدوا فيها قصائدهم وأشعارهم. كان رحمه الله ذا أسلوب شائق، وعرضٍ للقضية رائق، حيث دأب على الغوص فى لجج اللغة والأدب ليخرج لطلاب دار العلوم دررا ولألىء، تُثيرى مخزونهم الأدبى، وتنمى ذائقتهم الشعرية والنقدية. وحيث إن وقت المحاضرة لم يكن يتسع ليروى ظمأنا من معين أستاذنا العذب، فقد كنا نقتفى أثره حذو القذة بالقذة، حيث تنعقد ندواته، وتقام أمسياته بالمتاحف والصالونات. ود. عبد اللطيف عبد الحليم، المُكنى بأبى همام من مواليد محافظة المنوفية عام 1945 ، حفظ القرآن دون العاشرة، والتحق بمعهد شبين الكوم الأزهرى، ثم بكلية دار العلوم التى تخرج فيها وعمل معيدا 1970، ثم سافر فى بعثة إلى ( مدريد)، حصل فيها على الليسانس والماجستير والدكتوراه، ثم عاد ليعمل أستاذا ورئيسا لقسم الدراسات الأدبية بدار العلوم. تتلمذ على يد العقاد، وشيخ المحققين أبى فهر محمود شاكر، فأسهما فى تشكيله الثقافى والفكري. عمل رئيسا لمجلس إدارة جمعية العقاد الأدبية، كما كان عضوا باتحاد الكتاب، ولجنة ترقية الأساتذة بالمجلس الأعلى للجامعات. ألف ستة دواوين شعرية منها: الخوف من المطر، وهدير الصمت، وأغانى العاشق الأندلسى، والعديد من الكتب والدراسات منها: المازنى شاعرا، شعراء ما بعد الديوان. وعن جهوده فى الترجمة الإبداعية، حصل على جائزة الدولة التشجيعية، كما حصل على جائزة البابطين فى الشعر، واختير عضوا بمجمع اللغة العربية 2012. وبعد رحلة عطاء أثرى خلالها مكتبة الثقافة الأدبية بالعديد من المصنفات، التى أثبتت ريادته فى هذا الميدان ترك أبوهمام حياتنا فى صمت وأسلم روحه إلى بارئها الثلاثاء الماضى عن 69 عاما، تاركا بفراقه نفوسا مُلتاعة..فرحمه الله رحمة واسعة، وألهمنا ولغة الضاد بفقده صبرا وسلوانا. Sabry_elmougy @yahoo.com لمزيد من مقالات صبرى الموجى