حكومتنا تسابق الزمن للإعداد لمؤتمر اقتصادى عالمى يستهدف اجتذاب الاستثمارات الأجنبية. لا تكف عن تذكيرنا بأن مستوى مدخراتنا المحلية لا يكفى لتمويل ما نحتاجه من استثمارات ضخمة لإقامة المشروعات وتشغيل شبابنا وزيادة معدلات النمو والدخول ورفع مستويات المعيشة. حتى فيما يتعلق بما نحتاجه من مدارس ومستشفيات وكهرباء ومياه وصرف صحى ونقل ومواصلات وغيرها من الخدمات والمرافق الأساسية تقول لنا الحكومة إنها لا تملك ما يكفى من الموارد لتوفيرها وأنها ستلجأ لآلية المشاركة مع القطاع الخاص للاستثمار فى تلك المجالات، أخذا فى الاعتبار أن القانون المنظم لتلك الآلية والصادر فى ظل نظام مبارك لا يفرق فى هذا الشأن بين القطاع الخاص المحلى أو الأجنبي. مبدئيا، نحن نعترف بأن المعدلات الحالية للادخار فى مصر متدنية وتدور حول 8% ، وهو مستوى لا يكفى بالقطع لتنفيذ الاستثمارات القادرة على رفع معدلات النمو وإحداث نقلة حقيقية فى مستويات التشغيل ومستويات المعيشة، والتى تتطلب معدلات إدخار لا تقل عن 25%. الحكومة ترى أن سد فجوة التمويل المطلوب لا بد أن يأتى من الخارج. ترفض أى محاولة لتعبئة المدخرات المحلية بفرض الضرائب التصاعدية على الأغنياء، رغم اعترافها بأن معدل الضريبة إلى الناتج المحلى الإجمالى فى مصر لا يتجاوز 9% مما يجعله من أقل المعدلات فى العالم حتى بالمقارنة بالدول الفقيرة والتى يصل فيها ذلك المعدل إلى 23%. رغم ذلك ترفض الحكومة رفع معدلات الضرائب على الأغنياء و ترى أن الحل الوحيد هو الاعتماد على الاستثمارات الأجنبية. طبعا.. نحن نقر بأن دول العالم المختلفة تتسابق على اجتذاب الاستثمارات الأجنبية، فلا أحد يمكن أن يرفض تعزيز قدراته الإنتاجية والإسراع بمعدلات النمو. إلا أن متابعة الدول الرئيسية المستقبلة للاستثمار الأجنبى تشير إلى أن الاستثمارات المحلية مازالت هى التى تلعب الدور الرئيسى فى تلك الدول. تجارب تلك الشعوب تتلخص فى رسالة مهمة.. بناء بلدك هو مهمتك أنت.. دور الآخرين مهما عظم لن يكون أكثر من عامل مساعد. ويحضرنا هنا مثال الصين التى تعد أكبر دولة مستقبلة لتدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر بين الدول النامية وثانى أكبر دولة مستقبلة لتلك الاستثمارات فى العالم ككل. لقد بلغ إجمالى ما استقبلته الصين من تلك الاستثمارات فى عام 2013 نحو 124 مليار دولار، إلا أن تلك التدفقات الضخمة مثلت أقل من 3% من إجمالى الاستثمارات التى نفذتها الصين فى ذلك العام. نفس الظاهرة نجدها فى كل من الهند وإندونيسيا اللتين تدخلان ضمن قائمة أكبر عشرين دولة مستقبلة للاستثمارات الأجنبية فى العالم. فى كلا البلدين لم تتجاوز نسبة الاستثمارات الأجنبية فى عام 2013 ما يتراوح بين 5% و 6% من إجمالى الاستثمارات المنفذة. على صعيد آخر، فإنه إذا كانت سياسة الحكومة هى أنه لا صوت يعلو فوق صوت الاستثمارات الأجنبية، فلابد وأن نذكرها بأن تجربتنا مع تلك الاستثمارات خلال العقود القليلة الماضية كانت تجربة مريرة لا يمكن أن تمت للتنمية بأى صلة. لا بد أن نذكرها بما حدث لكل من عمر أفندى والمراجل البخارية والنيل لحليج الأقطان وطنطا للكتان وغزل شبين وأسمنت أسيوط. فقد تعهد المستثمر الأجنبى الذى استحوذ على كل شركة من تلك الشركات بأن يقوم بتطويرها وضخ رءوس أموال إضافية واستثمارات جديدة تؤدى إلى زيادة طاقتها الإنتاجية وتوسيع نشاطها، واستغلال أراضيها وأصولها فى نفس مجال نشاطها، والحفاظ على العمالة، بل وصقل مهاراتها بمزيد من التدريب والتطوير. إلا أن الواقع قد أسفر عن سيناريو متكرر لتقليص النشاط وبيع الأراضى والأصول العامة وفصل العمال وإجبارهم على الخروج إلى المعاش المبكر. فى حالة عمر افندي، لم يقتصر الأمر على كل ما ذكرنا بل زيد عليه أن الشركة صارت غارقة فى الديون. فى حالة شركة المراجل البخارية وصل الأمر إلى منتهاه بتفكيك البنية الانتاجية للشركة وإيقاف نشاطها، الذى كان يتمثل فى إنتاج الغلايات الضخمة التى تقوم بحرق الوقود لتوليد البخار ليستخدم كقوى محركة فى محطات توليد الكهرباء وفى الصناعات المختلفة. انتهى الأمر إلى تخريد معدات المراجل البخارية وانتقال موجوداتها لشركة تعمل فى مجال الاستثمار العقاري. ومبدئيا، نحن نريد استثمارات جديدة تضيف إلى طاقتنا الإنتاجية، وليس استحواذا على ما هو قائم بالفعل. لا تقولوا لنا إن المستثمر الأجنبى لا يفضل المخاطرة ببناء مشروع جديد ويسعى إلى الدخول على مشروع قائم بالفعل. تقرير منظمة الأونكتاد التابعة للأمم المتحدة عن تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر فى العالم، يقول إن ثلثى تلك التدفقات يتمثل فى مشروعات جديدة مقابل الثلث فقط لعمليات الاستحواذ. أما فى الصين التى تستأثر بثانى أكبر حصة من تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر فى العالم فإن نسبة الاستحواذ لا تتجاوز 22% من إجمالى تلك التدفقات. لا تقولوا لنا إن غاية ما نتطلع إليه هو أن نتحول إلى مخزن غلال العالم، بحجة أن المستثمر الأجنبى يفضل قطاع الخدمات ويهرب من الصناعة. تقرير الأونكتاد يؤكد أن 46% من تدفقات الاستثمار الأجنبى فى الدول النامية يتركز فى قطاع الصناعة. نريد استثمارات صناعية ومشروعات جديدة توسع من طاقتنا الإنتاجية وتستجيب لأولوياتنا فى التنمية وتفتح لأبنائنا فرص العمل، وليس الاستيلاء على صناعاتنا الوطنية وتفكيكها وتشريد عمالها. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى