أصدرت الهيئة العامة للأمم المتحدة فى دورتها العشرين عام 1973 قرارا باعتماد اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية المقررة فى لجانها المختلفة، وتبع ذلك أن أصدر المجلس التنفيذى لليونسكو فى عام 2010 قرارا بأن يكون يوم 18 ديسمبر من كل عام يوما عالميا للغة العربية. ولا شك أن القرارين كانت لهما ركيزة تاريخية عميقة وركيزة ثقافية واسعة لهذه اللغة بوصفها واحدة من أعرق اللغات السامية، وزاد هذا العمق شرفا وسموا نزول القرآن الكريم بهذه اللغة, وهو ما امتنّ به الله على العرب فى عشر آيات من مثل قوله تعالى فى سورة (فصّلت) «كتاب فصّلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون» وهذا العمق التاريخى والتشريف السماوى انضاف إليهما كثرة هائلة فى كم المتعاملين بها، وهذا الكم يصل إلى أربعمائة وخمسين مليون نسمة يعيشون فى الوطن العربى وما حوله، وكثير منهم منتشرون فى أرجاء العالم شرقا وغربا، بل يتسع هذا الكم إذا نظرنا إلى علاقة العربية بالمسلمين فى العالم، وعددهم يقارب المليار والنصف، إذ إن كثيرا من طقوسهم الدينية وبخاصة فى الصلاة تحتاج إلى بعض الكلمات والجمل العربية مما يدعوهم إلى الحرص على الإلمام بها، بل إن كثيرا من الشعائر الكنسيّة المسيحية تؤدى بهذه اللغة أيضا. ومن البديهى أن الشعر كان (فن العربية الأول)، ومن ثم كان سباقا إلى الاحتفاء بهذه اللغة، وتغنى الشعراء بجمالها , ونوهوا بمكانتها، وازدادت عناية الشعر باللغة عند الإحساس بالمخاطر التى تتعرض لها، أو محاولة اللغات الأخرى التغلب عليها فى عقر دارها، ذلك أن الحفاظ على هذه اللغة، هو حفاظ على الهوية والتاريخ والثقافة، ومن ثم كانت نظرة الشعراء القدامى لها نظرة إعلاء، واعتزاز بصيانتها من اللحن، يقول الشاعر المخضرم (سويد اليشكري) ت 60 ه: فإن فى المجد همّاتى وفى لغتى علوية ولسانى غير لحانى وفى العصر الحديث يقول أمير الشعراء : إن الذى ملأ اللغات محاسنا جعل الجمال وسره فى الضاد ويفاخر حافظ إبراهيم بهذه اللغة ليؤكد التلاحم بين مصر والشام فى قوله: أم اللغات غداة الفخر أمهما وإن سألت عن الآباء فالعرب أما الشاعر اللبنانى ( شكيب أرسلان ) فيقول : أدركت فى اللغة العرباء منزلة لها على كل فحل كلّ إدلال وعندما تتعرض اللغة للخطر يكون أول المنبهين إليه الشعراء، فيدقون أجراس الإنذار لإيقاظ الوعى بما تتعرض له الهوية القومية من مخاطر، يقول الشاعر اللبنانى (سابا رزيق) 1889 منبها إلى المخاطر التى تواجه اللغة، وكأنه كان يخترق الغيب ليحدثنا عما تواجهه اللغة العربية فى هذا الزمن الحاضر: رى لغة الأجداد فى عقر دارها تسام الأذى من كل أحمق أهوج يطلقها أبناؤها وبناتها لخطب ولاء الأعجمى المدبج ويحذر الشاعر المصرى على الجارم من ضياع العربية فى قوله : وحببوا لغة العرب الفصاح لهم فإن فى خذلانها للشرق خذلان وقد ازدادت هذه المخاطر فى أخريات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عندما فرض الاستعمار اللغة الإنجليزية لغة للتعليم فى المدارس، وظهرت الدعوة إلى إحلال العامية محل الفصحي، ويومها تقدمت كوكبة من المثقفين يتقدمهم الشيخ على يوسف صاحب جريدة (المؤيد) للزعيم سعد زغلول وكان ناظرا للمعارف آنذاك مطالبة بعودة اللغة العربية للمدارس، وعرْض الأمر على (المجلس التشريعي) عام 1907 لأخذ الموافقة على هذا الاقتراح، لكن الزعيم اعتذر بان احتياجات الواقع المصرى فى البورصة والبوستة والجمارك والبنوك والمحاكم المختلطة والشركات الأجنبية تحتاج إلى المتعلمين باللغة الإنجليزية، وهو ما سجلته جريدة (اللواء) فى عدد 5 سبتمبر عام 1907، ثم صححت الجمعية التشريعية الأمر وعادت اللغة العربية للمدارس مرة أخرى عام 1908. لكننا اليوم نواجه نكسة لغوية، بعد أن فشت العجمة , وشاع اللحن، وأصبح الجهل بالعربية مجالا للفخر, وعادت كثير من المؤسسات للتعليم باللغة الأجنبية، وظهرت بعض الدعوات الغريبة عن أن العامية هى العربية المصرية، والواجب علينا فى اليوم العالمى للغة العربية، أن نستعيد لهذه اللغة مكانتها فى سلم القيم، فلا حضارة بلا لغة، ولا نهضة بلا لغة، ولا هوية بلا لغة، وأن تكون البداية من التعليم فى كل مراحله، وكل مستوياته، ثم وسائل الإعلام المختلفة: المقروءة والمسموعة والمشاهدة. لمزيد من مقالات د.محمد عبدالمطلب