لا يزال الحديث موصولا عن لغة القرآن التي اختارها له الله، وجعله قرآنا عربيا غير ذي عوج في ألفاظه المنضدة وجمله المستقيمة ومعانيه المستوية، ولا أزعم أن القرآن كان تحديا للعرب واعجازا يقفون امامه بهرا فحسب، بل كان ايضا تكريما لأهل هذه اللغة من الذين سوف يؤمنون ويحملون رسالته للعالم أجمع، وفي لحظة تاريخية أثيرة كانت شهادة واحد من ألد اعداء الاسلام للغة القرآن وآياته »ان له لحلاوة وان عليه لطلاوة وان أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر، وإنه يعلو ولا يُعلي عليه«، ولا يستطيع احد أن يفصل اللغة العربية عن القرآن والواقع الذي نزل فيه، وكان واقعا محتشدا فخورا بلغته، لا تخلو قبيلة من قبائله من الشعراء، يقيمون لهم سوقا كبيرة للشعر، ما حدث ذلك في تاريخ أي شعب غير شعوب العرب. وبذلك كانت جواهر اللغة العربية تصقل وتلتمع، وتعلق الاشعار علي استار الكعبة ليتناقلها الاجيال، فلا يكون هذا الفضل الا لأجود الشعر وأجزله، وقد شرح لنا كثير من فقهاء اللغة تلك المعلقات السبع فجاء كل واحد منهم بمعان واسرار لم يأت به آخر، ولذا كان القرآن الكريم بلغته العربية خاتما لمعجزات السماء وآياتها الخالدة، فاحتفظ بين دفتيه بأهم لغات الارض، برغم كل هذا الاهمال والاقصاء الذي تعرضت له اللغة ومن يتولون تعليمها للناس. وكنت اتابع في الآونة الاخيرة كيف تراجعت الحماسة في قلوب اناس ظننا انهم اجدر بأن يحملوا رسالة استعادة اللغة العربية لعرشها بين لغات العالم الآخذة في الانتشار والتغلغل، وكنت أود ان اسمع من احد الذين يعلمون اللغة في المدارس او في الجامعة يأتينا بخبر عن مشروع كبير ينهض بالعربية ويوقف زحف اللغات الاخري عليها، حتي كأننا في واد وهم في واد آخر، اسأل هل يرضيكم هذا الهزال الذي يعتري اولادنا في حديثهم بمفردات وجمل ليست من العربية في شيء. ولا استثني الجامعة التي تخرج آلافا كل عام يحملون شهادات تؤهلهم لتعليم اللغة العربية، فاذا هم أبعد ما يكون عن توظيف هذا التأهيل حفزا لهؤلاء الذين يدرسون علي أيديهم وينتظرون منهم ان يحببوا اليهم اللغة ويعرفون تاريخها، واني لاعجب من هذا الفارق الكبير بين كتاب القرية الذي كنا نذهب اليه اطفالا دون السابعة من عمرنا فنحفظ القرآن، ثم لا يجد معلمنا »سيدنا« حرجا في ان يضيف لنا فنحفظ من ألفية بن مالك ما شاء لنا الله، وما شاء جهد سيدنا برغم عصاه الغليظة »والفلقة« التي كانت تكتفنا اذا وجد منا تقصيرا او زهدا في التعلم، اي فرق كبير وبون شاسع بين هذا الكتاب وسيدنا الصادق الامين، وبين ما نحن فيه من حالة تعليمية متردية ليس لمعلم اللغة العربية فيها اي مكان من التوقير والتمييز ولست ابالغ حين اقول صراحة ان التعليم بجناحيه المدني والازهري اذ جاز التعبير يمر بأصعب فترات مرضه، وتعليم اللغة العربية بشكل خاص، واعتقد ان هذا يؤثر تأثيرا مباشرا علي كل مناحي الحياة، بل يؤثر علي عمق الانتماء والهوية الوطنية التي هي حافز الولاء الاول للوطن ولقضايا الامة العربية والاسلامية، ومن هنا فان الخوف من القادم المجهول يلح ويرسخ يوما بعد يوم، واصحاب البصيرة يرون علي البعد شرا يأتينا من مأمن الحذر، وقد اسوق بعض العبر من كتاب بالغ الخطورة للاستاذ عباس العقاد الذي لا تعرفه الاجيال الجديدة، لا من خلال ذلك الشارع الذي يعج بمحلات تجارية عليها لافتات تكسر اللغة العربية كسرا، العقاد له كتاب »اللغة الشاعرة«، يتحدث فيه عن عظمة اللغة التي وسعت كتاب الله لفظا وآية وما ضاقت عن آي به وعظات، وكيف حملت جمالا لا تعرفه لغة اخري من لغات العالم، وكيف لكل لفظ وقعه وسحره، وقدرته علي البيان والتأثير في النفوس. ان هناك حالة من شجن وحزن تسيطر علي نفسي حين اراجع كل هذه الاوراق التي بين يدي عن لغة القرآن، وهي تهجر وتلقي اعراضا وتشويها من بينها، وكأن الغرب قد غزانا حقا حين اوصلنا الي هذه المرحلة الحرجة والمؤلمة في نفس الوقت مع لغة الامة وعرضها وضميرها.