حسنا ان تعيدنا الاحداث الي الهوية التي غادرتنا طويلا ومهدت لما هو اشد قسوة، ان تهان اللغة التي تحفظ عهدنا بتلك الهوية الغائبة او المتجنبة، وكأن المرء يعود الي الماضي مرغما لكي نتذكر أن لنا لغة اسمها العربية، يحل مكانها الوافد علينا من ألسنة شتي ولا يكون بمثابة جار لها او معاضد، ولعل هذا ما دفع شاعر النيل حافظ ابراهيم ان يقف يوما لينعي للأمة لسانها الذي وحدها من المحيط الي الخليج، واداتها الحقيقية للحفاظ علي شخصيتها وبقائها بين الامم عزيزة مرفوعة الهامة والرأس. فهل رأيتم وهل استقصيتم فداحة ما يجري للغة الآن، فلا أحد يحسن تدريسها كما كانوا يحسنون بالأمس، ولا أحد يريد ان ينطق بها بقواعدها المنضدة كما كانوا ينطقون بها بالامس، ولا أحد يسعي لكي يكتب كلماتها سليمة فيتعلم ويثابر لانها لا تمنح جوهرها الكامن في احشاء بحورها الا لمثابر وصبور يعرف قدرها ويوقر ما فيها من عظمة شهد بها القرآن الكريم، وحفظها الي يوم الدين. ولعل ملابسات كثيرة دفعت بشاعر النيل حافظ ان ينفجر بقصيدته الخالدة، مؤنبا هذه الامة علي اهمالها للغة التي تحفظ كرامتها وتعلي من شأنها، وعدد اسباب البلي التي توشك ان تنتهي اليه العربية ومرجع ذلك الي اهلها الذين هجروها الي لغات اخري، وراحوا يملأون الصحف والكتب والخطب بالاخطاء القاتلة والتي تغير المعاني وتزيد غموضا في حسنها وكسرا لقواعدها »أري كل يوم بالجرائد مزلقا.. من القبر يدنيني بغير أناة وأسمع للكتاب في مصر ضجة.. فأعلم ان الصالحين نُعاني«. ولقد آذاني كثيرا ان يمتد هذا المرض العضال الي منابر المساجد ولا يجد من يتابعه ويتقي استشراءه بألسنة الخطباء الذين يخطئون ليس في قواعد اللغة وحدها، ولكن في ألفاظ القرآن وسلامة نطقه، ولا اتجني اذ أكتب هذا فليس اقدس لدينا من كتاب الله الذي حفظ لنا اللغة العربية، وشرفها به، والذين يحسنون اللغة يصابون بالغثيان اذا سمعوا في الزوايا والمساجد تحت العمارات ما يأتي به بعض الذين يصعدون المنابر - بغير الحق- وهم يجهلون اللغة العربية ويرفعون المنصوب ويجرون الفاعل ثم يسري ذلك الي آيات القرآن واحاديث النبي صلي الله عليه وسلم. ان عوامل شتي قد تداعت علي لغتنا العظيمة، وجعلتها في ذيل اهتمامنا، بل انتهي الامر الي الاساءة الفاحشة في كل وسائل الاعلام بغير استثناء الي معلم اللغة العربية واضفاء صفة المهرج علي ادائه ومحاولاته اذا تحدث بالعربية الفصحي بين الناس، وليس يخفي علينا ما نراه في كل يوم من السخرية والتهكم علي هؤلاء الذين يريدون لمعاني اللغة واصولها ان تنتشر وتسود. هي أمراض كثيرة انتشرت في جسد الامة وتغلغلت الي لغتها ولولا ايماني الراسخ بأن الله قد حفظ كتابه الكريم من التحريف لا نفلتت خشيتي اليه من هؤلاء الذين يقصرون في تعلم اللغة وتعليمها في معاهدها، بل في كل أركان التعليم في مصر. ومن هنا ابدأ بالرجاء، ان يعيد الازهر حساباته وهو المنوط الاول بكسر حالة الاستهتار السائدة الان في مجتمعنا والأخذ بأساليب حديثة تعيد للغة العربية اعتبارها وكيانها الاول فلا تهاون أو تسامح مع اي معلم او طالب لا يحسن اللغة العربية واذا ابي احد منهما، فليس له مكان في مقاعد الازهر او علي منابر المساجد فيما بعد. وللاعلام يمتد هذا الرجاء، فلا مكان ابدا لمن يلحنون باللغة العربية امام جمهور الناس حتي ولو تذرعوا بالحجج الواهية من ان الناس يريدون التبسيط والاحاديث العامية والالفاظ المنتشرة في الشارع ليس فيها من ثقافتنا وهويتنا من شيء، ليس لاحد ان يدعي اسبابا واهية تزيد من الفجوة والهوة التي جرت بسبب هجرنا للغتنا التي وسعت كل المعاني واخرجت للعالم باسره اجمل البيان، واعذب الشعر، وأرق النثر. لقد اسأنا الي اللغة العربية فاساء العالم معاملتنا وهم ينظرون الي شعوب تخلع روحها وتغسل من هويتها، وسأظل اذكركم كيف عز الغرب بعز لغته وانتشارها في العالم أجمع، »وقد عز قوم بعز لغات«. وللحديث بقية..