تهديدات الأمن القومي عبارة معتادة تتردد في أوقات عصيبة تمر بها الشعوب والمجتمعات عندما يصبح كيان ومؤسسات الدولة في مواجهة تحديات تخالف سيادة الأمن والاستقرار في الفترة السابقة علي ظهور تلك التهديدات، وترتفع درجة ووتيرة التهديد تبعا لطبيعة الطرف الذي يشكل تحديا للدولة. في حالة الشرق الأوسط اليوم، تبدو التهديدات التي تواجهها الدول العربية من المحيط إلي الخليج هي الأكثر شراسة واتساعا منذ ظهور كيان الدول المستقلة صاحبة السيادة في المنطقة، وتهديد الإرهاب يأتي علي رأس القائمة ولكنه ليس الوحيد، فهناك تهديد الفقر والبطالة وندرة المياه والموارد الطبيعية، وبالقطع تهديد الانقسام الطائفي والعرقي لا يقل خطورة، خاصة عندما يقترن اليوم بتأجيج الصراعات الدموية في دول كبيرة بالإقليم مثل سورياوالعراق، وتمكن الجماعات الدموية من بسط سطوتها علي مناطق تشعر بالحنق والكراهية لسلطة الدولة المركزية، نتيجة ممارسات طائفية وتمييز واضح ضد أقليات أو قطاع واسع من المواطنين. إزاء تلك الحالة، حددت الدولة في مصر خطوطا واضحة في حفاظها علي الأمن القومي المصري والعربي، لاسيما بعدما مرت بتجربة تمكن جماعة إرهابية من حكم البلاد (في ظروف لايزال المعلوم عنها قليلا ) ووضعها علي شفا حرب أهلية. ولم يكن التحرك الشعبي في 30 يونيو سوي تلك الحالة الكاشفة لتلاقي الشعور بالتهديد القائم بين المؤسسات المستقرة في الدولة وإرادة غالبية ساحقة من المواطنين ممن وجدوا في ممارسات النظام السابق، الذي كان يقوده مكتب إرشاد مشبوه في التوجهات والأهداف، كارثة علي الأمن القومي المصري بمعناه الواسع، مع استمرار التهديدات بوتيرة واحدة واتساع ما تمثله الكيانات الإرهابية فوق رقعة الشرق الأوسط. لم يعد الحديث عن صيانة الأمن القومى المصرى العربى رفاهية أو محاولة لتبرير ممارسات بعينها ولكنه صار مسألة بديهية لا تحتاج إلى عين فاحصة لإدراكها بقدر ما تحتاج إلى معاينة كل تلك المشاهد الصادمة التى تكتظ بها الشاشات التليفزيونية كل دقيقة. مصر تواجه تهديدات حقيقية وليس الحديث عنها من باب الرفاهية أو التضخيم وهو ما لا يدركه فى الغالب بعض رفقاء ثورة 30 يونيو، وبالقطع لا تنتظروا ممن يشكلون تهديدا حقيقيا مثل جماعات الإسلام السياسى أن يحافظوا على أقل القليل من الاعتبار لبلدهم أو سلامة مجتمعهم، فهم أصل التهديد اليوم ورعاة الفوضى والتقسيم والانقسام, فحجم المخاطر أكبر من المعتاد وعندما تكون الدولة قد أنهكتها أربع سنوات من الفوضى والانقسام السياسى يكون العبء مضاعفا. نظرة على خريطة المخاطر المحيطة بمصر نجد من الغرب ليبيا التى تعانى حربا داخلية تختلط فيها الولاءات والانحيازات الجهوية والطائفية والقبلية، لكن مصر تقف موقفا صلبا لا يقبل المساومة على سلامة ووحدة التراب الليبى وتدعم حكومة وبرلمانا شرعيا، وتعاون جيشا وطنيا ينتفض من أجل إعادة الأمور إلى نصابها. وقد حث الرئيس عبد الفتاح السيسى الولاياتالمتحدة وأوروبا خلال زيارته الأخيرة لإيطاليا وفرنسا على مساعدة الجيش الليبى فى قتال المتطرفين لتجنيب ليبيا الحاجة الى تدخل على مستوى ما يحدث فى سورياوالعراق، وقال الرئيس إنه يوجد خطر على المنطقة من الصراع فى ليبيا، مشيرا فى مقابلة مع قناة فرانس 24: «احنا لما نتعامل مع التطرف فى العراق أو فى سوريا فقط، ليبيا هتبقى منطقة جذب تؤثر على أمن واستقرار ليبيا وجيرانها. ويبقى محتاجين نفس الإجراء اللى بيتم فى العراقوسوريا يتعمل فى ليبيا، وهو موقف يعكس عمق فهم السلطة فى مصر لنكبة التدخل العسكرى للقوى الغربية فى صراعات المنطقة التى لن تخلف سوى الدمار ومزيد من الانقسام». وفى الجنوب، تقف مصر يقظة فى مواجهة محاولة استخدام السودان كمعبر وممر للإرهابيين، وتعول على علاقاتها التاريخية والمصير الواحد الذى يربطها بالشعب الشقيق من أجل دحر القتلة والمجرمين ومن أجل الحفاظ على حقوقها المستقرة فى مياه النيل، والتوصل إلى اتفاق يرضى كل الأطراف بشأن سد النهضة الإثيوبى وحققت الاتصالات على المستوى الرئاسى قدرا من التقدم فى العلاقة بين القاهرة والخرطوم ومنها زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى للسودان فى طريقه إلى القمة الإفريقية فى غينيا الاستوائية بعد توليه مهام منصبه فى يونيو الماضى وهى الزيارة التي أسهمت فى تعزيز العلاقات بين البلدين وتأكيد استمراريتها، كما تطرق الرئيسان للمجالات والمشروعات المختلفة التى هى قيد التنفيذ بين البلدين فى ظل توافق كبير فى الإرادة بين البلدين، وهو ما انعكس فى الاتصالات التالية للزيارة وزيارة الرئيس السودانى عمر البشير لمصر أكتوبر الماضي. من الجنوب أيضا يمثل ملف العلاقات المصرية الإثيوبية تحديا للأمن القومى بكل معنى الكلمة، لكن الدبلوماسية المصرية النشيطة تختصر الوقت والمسافات مثلما قال رئيس الحكومة المهندس إبراهيم محلب قبل أيام فى جامعة القاهرة إنه لا يمر شهر دون زيارات من وزراء الحكومة المصرية لأديس أبابا، موضحا أن هناك خطوة كبيرة قطعها الرئيس السيسى عندما جلس إلي رئيس حكومة إثيوبيا وقال له «لكم الحق فى الكهرباء، ولنا الحق فى الماء». كما كان محلب واضحا فى إشارته إلى أن ما يضر شعب مصر لا ينفع الشعب الإثيوبى والعكس. وكان البلدان قد اتفقا على وجود لجنة ثلاثية تجتمع لمراجعة وتقييم مشروع سد النهضة وهى خطوة محورية فى إطار الشفافية التى تطمح مصر إلى تطويرها لتجنب الصدام حول المشروع الكبير. فى المشرق العربي، تقف مصر صلبة فى موقفها من الحفاظ على وحدة التراب السورى أيضا ومن الناحية الإستراتيجية يمثل أى تهديد تواجهه سوريا تهديدا واضحا لمصر. وتقسيم سوريا لا يقل خطورة عن تهديد سد النهضة بل ربما يزيد فى ظل وجود حركة حماس فى قطاع غزة والمواقف الإسرائيلية الرافضة للدولة الفلسطينية، ويضاف إليها اليوم تهديد تنظيم داعش الإرهابى. وكل تلك التهديدات تتفاعل مع تهديدات الإرهاب فى الداخل التى تلعب فى شمال سيناء على إضعاف الدولة المصرية ومحاولة جر البلاد إلى مستنقع الدم الذى غرقت فيه سوريا وقبلها العراق وتلك حلقة عنقودية متصلة من الإرهابيين العابرين للحدود التى تعد مصر هدفها الأول فى سبيل بسط نفوذها على المنطقة وهو الشعور المتنامى عند تلك الجماعات الدموية بعد مكاسبها على الأرض فى العراقوسوريا. كم هو صعب على المصريين اليوم أن يروا الجندى السورى والمواطن السورى الذى حمل السلاح كتفا بكتف أخيه المصرى عبر التاريخ من أيام عين جالوت وحطين إلى حرب أكتوبر تحت راية عربية واحدة لدحر الغزاة يقفون اليوم بلا حيلة يلتمسون العون والدعم فى مواجهة هكسوس العصر الحديث ولا يحصدون سوى مزيد من القتل والخراب فى عالم بائس تحكمه مصالح أوقعتهم فى فخ من الصراعات التى تمولها أموال مشبوهة وقطعان من الإرهابيين العابرين للحدود لديهم شراهة غير عادية للدماء. ********** رغم كل ما جرى ويجرى فى قناة السياسة والدبلوماسية المصرية فإن هناك حاجة ملحة لمزيد من الجهود حتى لا نترك المنطقة العربية تنزلق إلى مزيد من التفتيت والخراب، فهى الدولة الأكثر قدرة على جمع الشتات العربي، ومن هنا جاءت دعوة وزير الخارجية السفير سامح شكرى فى البحرين، مطلع الأسبوع، إلي إيجاد نظامٍ إقليمى عربى جديد بعيدا عن أسلوب المحاور الذى كان موجودا على مدى العقود الأربعة الماضي، مؤكدا فى كلمته أمام منتدى المنامة ضرورة أن تكون محاربة تنظيم داعش ضمنَ إطار إستراتيجية شاملة لمحاربة جميعِ التنظيمات متشابهة الفكر فى المنطقة، مع استهدافِ القضاء على ذلك التنظيم عسكرياً وفكرياً وحرمانِه من التعاطف والتمويل وإلا فإنه حتى وإن توارى فى العراق فسوف يعاودُ الظهور فى أماكنَ أخرى من العالم فالجميعُ بلا استثناءٍ ليسوا بمأمنٍ من هذا الخطر. تلك الرؤية نحتاج البناء عليها بأسرع الخطوات الممكنة، وتوفر لنا علاقاتنا الإستراتيجية مع السعودية ودول الخليج الشقيقة فرصة جيدة حتى لا تضيع الكلمات فى الهواء بينما الوضع على الأرض يزداد غموضا ومأساوية. الفرصة سانحة من أجل لعب القاهرة الدور المحورى فى حوار عربى أوسع وقيادة الاتصالات من أجل تقريب وجهات النظر والمواقف خاصة علاقة السعودية والنظام السوري، فموقف مصر ضد تقسيم سوريا ومع بقاء الدولة وهى تدعم الحوار بين النظام والمعارضة. ومادمنا نستقبل المعارضة فلماذا لا نفتح حوارا علنيا مع النظام فى دمشق ونتقدم خطوة إلى الأمام بدعوة النظام والمعارضة إلى حوار بالقاهرة تحت راية الجامعة العربية؟ ********** المواقف الأخيرة للسياسة وللدبلوماسية المصرية توفر أرضية وقوة دفع إيجابية نحو مزيد من العمل السياسى الخلاق وإطلاق طاقات الإبداع والخيال والإقدام لحلول غير تقليدية للوضع العربى البائس والمحير وهى مهمة ليست سهلة، ولكن مصر قادرة على جمع الشتات العربى تحت سقفها وهو دور لا يختلف عليه العرب اليوم. فِلمَ لا تتوافر إرادة التحرك الجماعى لإنقاذ المنطقة من مصير مجهول يريده خصومنا ويتمنونه فى السر والعلن؟! لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام