يواجه الشعب السورى امتحانا عسيرا تجاوز البحث عن الأمان إلى السعى من أجل الوجود والبقاء وقد يكون هذا الامتحان هو الأصعب منذ ظهوره بالشكل المدنى للدولة وللتجمع الإنسانى حتى أن المقولة العربية التى عشناها منذ احتلال فلسطين وإلى غاية بداية ثمانينيات القرن الماضى علي «أن حربنا مع إسرائيل هى حرب وجود وليست حرب حدود» تنطبق عليه اليوم، بل إن إسرائيل صارت طرفا أساسيا متحالفا من قوى الشر والظلام من أجل انهاء شرعية الوجود السورى من خلال غاراتها المتكررة، آخرها على ريف دمشق ومطاراتها ومستودعاتها العسكرية . ما يحدث فى سوريا اليوم، يتجاوز المؤامرة والحرب إلى إفراغ تلك الدولة من شعبها، سواء بإحلال شعوب أخرى بدل الشعب العربى السوري، ولو بشكل رمزى، كما هو الأمر بالنسبة لحضور جماعات إجرامية جاءت من كل بقاع العالم لتحرير سوريا من بطش نظامها حسب ادعاءاتها ولتحل فى النهاية مكانه، ويمكن ملاحظة هذا على المستوى المعرفى من التقارير الإخبارية، التى تناولت موقف الجماعات الإرهابية المسيطرة على كثير من المناطق السورية من قضايا التعليم والعلاقات الاجتماعية ونظام المعيشة، أو من خلال هجمات دولية لمحاربة داعش، وفى النهاية يدفع الشعب السورى الثمن، أو حتى عبر محاولات النظام مواجهة الإرهاب بتكلفة باهظة على حساب الشعب. مهما يكن فسوريا اليوم مُسْتباحة من قوى محلية ودولية مختلفة، فيها تتقاطع مصالح الشرق مع الغرب، وفيها تقتل العروبة ويُزوَّر المعنى الحقيقى للإسلام، وفيها أيضا تتناحر بل وتتقاتل المذاهب والأقليات، وعلى أرضها وشعبها تجرب الأسلحة العالمية الجديدة، وفيها يسعى الفاشلون فى مناطق كثيرة من دول العالم إلى تحقيق أحلامهم، بل وآمالهم المستحيلة. الأطراف المتقاتلة فى سوريا اليوم، أو تلك الأخرى المتدخلة للردع، تبرر إجرامها بشعار «حماية الشعب السورى»، وهو شعار فقد مع الأيام مبناه ومعناه، ليس فقط لأن مأساة الشعب السورى تزداد تعمقا وفجيعة، ولكن لأن طلاب الثأر منه كُثْر، ناهيك على أن الشعب السورى أصبح يمثل عبئا على نفسه وعلى الدول المجاورة وعلى العالم، بسبب تحكم قوى خارجية فى مصيره حَرْبا فى الوقت الراهن، وسِلْما مُشوَّها فى المستقبل المنظور، ولنا فى تحرك المبعوث الأممي» ستيفان دى ميستورا خير مثال، فخطته المتعلقة ببداية للحل السياسى فى سوريا تقوم على توحيد الجهد العسكرى بين النظام السورى والمعارضة المعتدلة ضد تنظيم داعش على أن يبدأ التطبيق من حلب. وبغض النظر عن رفض بعض أطراف المعارضة لخطة دى ميستورا، فإنها ذات صلة بتركيا، حيث تقيم المعارضة المعادية للنظام السورى هناك، بل ومنها من هو معاد للشعب السوري، ويعمل لصالح النظام التركي، ناهيك عن أنها فى حلب وحدها تتجاوز المائة فصيل، ما يعنى أن الخطة أيضا هى فى النهاية تخدم السياق العام لمحاربة الإرهاب من طرف قوات التحالف، وقد لا يكون هذا فى صالح الشعب السوري. تاريخيا فى حدود مطالعاتى لم يحدث أن حاربت دولة على عدة جبهات فى وقت واحد، كما هو الأمر فى سوريا اليوم، والأكثر من هذا لا يوجد شعب فى عالمنا المعاصر لا يجد قوى دولية تنصفه أو تؤيده ولو على مستوى الشعارات والخطب السياسية، أو على الأقل لا تشارك مجتمعة فى إبادته، فما الذى فعله الشعب السورى حتى يتعرض لمثل هذا؟. الشعب السورى اليوم يعاقب بسبب مواقف سابقة لقيادته من طرف القوى الدولية الفاعلة، ويعاقب من نظامه لمطالبته بالديمقراطية والعدالة، ويعاقب من الجماعات الإرهابية لأنه مختلف عنها، ويعاقب من إسرائيل تخوفا من مستقبل قد يظهر فيه قائد من هذا الشعب يغير مسار التاريخ، ويعاقب من بعض الأشقاء، لأن منه من لا يزال يقف إلى جانب الدولة السورية، ويقبل العيش فى الجحيم اليومى ولا يرحل خارج أرضه ليعامل بسوء من الآخرين. مهما يكن فإن الحرب الدائرة فى سوريا مجرد تجربة لما سيؤول إليه كثير من الدول العربية، وهى حلقة متممة لدول عربية أخري، نراها تواجه نفس المصير، أكثرها وضوحا هى العراق واليمن وليبيا، وهكذا ضمنت قوى الشر تدمير أمتنا من ثلاثة مواقع رئيسية، هي: الخليج العربى من خلال العراق واليمن وبعض الأعمال المتفرقة فى الدول الخليجية الأخري، ومنطقة المواجهة مع إسرائيل سوريا وامتدادها فى لبنان، والمغرب العربى عبر ليبيا، وكل هذا ينقص من رصيد القوة المصرية، خصوصا وأنها تُحارب على صعيد الجبهة الداخلية من قوى إرهابية تعمل من أجل وصول مصر إلى الحالة العراقية أو السورية أو اليمنية أو الليبية. إن استباحة الوجود السورى على مستوى الشعب والدولة، لا يمكن إيقافه إلا بموقف سورى حاسم من كل الأطراف لجهة الدفاع عن الوجود قبل المكاسب السياسية، وهو أمر فى غاية الصعوبة، لأنه يتعلق بارتباطات الداخل بالخارج سواء على مستوى السلطة أو على مستوى المعارضة، فالخلل ليس فى هذه الأخيرة فقط التى استعانت بالمتطرفين من دول عديدة، ولكن من النظام أيضا الذى اعتمد فى حربه على قوى خارجية لدعمه فى مواجهة الإرهاب. لقد دوّل السوريون معارضة وسلطة حربهم القذرة فى وقت مبكر، وهاهم اليوم يدفعون بعد أربع سنوات ثمن ذلك، وعليهم اليوم أن يحاولوا الخروج من هذه الأزمة، ليس من أجل الحسم فى مسألة السلطة، تحت شعار «من يحكم من»، وإنما فى مسألة الوجود، لجهة ترسيخ مباديء التعايش والتسامح والمصالحة، ومع ذللك كله لا ننكر أن الشعب السورى قدم فى صبره نموذجا عربيا لإثبات الوجود، وعلى الذين يشعلون الفتن فى دولنا العربية الأخرى أن يأخذوا العبرة من الحرب السورية التى لم تضع أوزارها بعد. لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه