وزير الاتصالات: مصر تتصدر إفريقيا في سرعة الإنترنت مع الحفاظ على الأسعار في متناول المواطنين    وزير الاتصالات: ارتفاع الصادرات الرقمية إلى 7.4 مليار دولار وخطة لمضاعفة صادرات التعهيد    مفاجأة سارة من رئيس الجمارك للمستودين بشأن تطبيق «ACI» على الشحنات الجوية    المتحدث باسم الحكومة: الأعوام المقبلة ستشهد تحسنا في معدلات الدخل ونمو ينعكس على المواطنين    رئيس الوزراء: خطة واضحة لخفض الدين الخارجي إلى أقل من 40% من الناتج المحلي الإجمالي    فنزويلا ترافق ناقلات النفط بسفن حربية لمواجهة الضغوط الأمريكية    فلسطين.. مروحيات الاحتلال تطلق نيرانها شرق مخيم البريج وسط قطاع غزة    العراق: التوسع في الرقعة الزراعية مع هطول أمطار غزيرة    سفير الهند لدى سلطنة عمان: العلاقات الاقتصادية تشكل دعامة قوية للشراكة بين البلدين    رئيس بلدية خان يونس: الأمطار دمرت 30 ألف خيمة بغزة ونقص حاد في المستلزمات الطبية    اسكواش - بالم هيلز تستضيف بطولة العالم للرجال والسيدات في مايو المقبل    كأس الرابطة الإنجليزية - نيوكاسل يواصل حملة الدفاع عن لقبه بفوز قاتل على فولام    سفير مصر بالرباط يستقبل بعثة المنتخب الوطني بمدينة أغادير استعدادا لكأس أمم أفريقيا    أمم إفريقيا - البطل يحصد 7 ملايين دولار.. الكشف عن الجوائز المالية بالبطولة    مصرع عامل تحت تروس الماكينات بمصنع أغذية بالعاشر من رمضان    إصابة 11 شخصاً فى حادث تصادم سيارتين ب بدر    استنفار كامل للأجهزة التنفيذية والأمنية بموقع انهيار عقار غرب المنيا    وزير الثقافة يعزز الشراكة مع متاحف قطر ويشارك في احتفالات اليوم الوطني.. صور    بصورة تجمعهما.. محمد إمام ينهي شائعات خلافه مع عمر متولي بسبب شمس الزناتي    أبناء قراء القرآن يتحفظون على تجسيد سيرة الآباء والأجداد دراميًا    وائل فاروق يشارك في احتفالات اليونسكو بيوم اللغة العربية    نوبات غضب وأحدهم يتجول بحفاضة.. هآرتس: اضطرابات نفسية حادة تطارد جنودا إسرائيليين شاركوا في حرب غزة    إصابة نورهان بوعكة صحية أثناء تكريمها بالمغرب    اقتحام الدول ليس حقًا.. أستاذ بالأزهر يطلق تحذيرًا للشباب من الهجرة غير الشرعية    جامعة الإسكندرية تستقبل رئيس قسم الهندسة الحيوية بجامعة لويفل الأمريكية    وزارة الداخلية: ضبط 40 شخصاً لمحاولتهم دفع الناخبين للتصويت لعدد من المرشحين في 9 محافظات    اندلاع حريق في حظيرة ماشية بالوادي الجديد    القاضى أحمد بنداري يدعو الناخبين للمشاركة: أنتم الأساس فى أى استحقاق    السلاح يضيف 7 ميداليات جديدة لمصر في دورة الألعاب الإفريقية للشباب    رسميًا.. إنتر ميامى يجدد عقد لويس سواريز حتى نهاية موسم 2026    الإسماعيلية تحت قبضة الأمن.. سقوط سيدة بحوزتها بطاقات ناخبين أمام لجنة أبو صوير    وزير الإسكان: الأحد المقبل.. بدء تسليم قطع أراضي الإسكان المتميز للفائزين بمدينة بني سويف الجديدة    نجوم الفن فى عزاء إيمان إمام شقيقة الزعيم أرملة مصطفى متولى    نتنياهو يعلن رسميًا المصادقة على اتفاق الغاز مع مصر بمبلغ فلكي    ما حكم حلاقة القزع ولماذا ينهى عنها الشرع؟.. أمين الفتوى يجيب بقناة الناس    وكيل تعليم القاهرة في جولة ميدانية بمدرسة الشهيد طيار محمد جمال الدين    إصابة شخصين في حادث تصادم 3 سيارات أعلى الطريق الأوسطي    الحكومة تستهدف استراتيجية عمل متكامل لبناء الوعى    حين تغرق الأحلام..!    بين الحرب والسرد.. تحولات الشرق الأوسط في 2025    خالد الجندي: من الشِرْك أن ترى نفسك ولا ترى ربك    محافظ الجيزة: زيادة عدد ماكينات الغسيل الكلوى بمستشفى أبو النمرس إلى 62    السيسي يرحب بتوقيع اتفاق الدوحة للسلام الشامل بين حكومة وتحالف نهر الكونغو الديمقراطية    البنك الزراعي المصري يسهم في القضاء على قوائم الانتظار في عمليات زراعة القرنية    مستشار رئيس الجمهورية: مصر تمتلك كفاءات علمية وبحثية قادرة على قيادة البحث الطبى    مفتي الجمهورية يلتقي نظيره الكازاخستاني على هامش الندوة الدولية الثانية للإفتاء    أشرف فايق يكشف حقيقة دخول عمه محيي إسماعيل في غيبوبة بسبب جلطة بالمخ    أسوان تكرم 41 سيدة من حافظات القرآن الكريم ضمن حلقات الشيخ شعيب أبو سلامة    18 فبراير 2026 أول أيام شهر رمضان فلكيًا    ريال مدريد يبدأ رحلة كأس ملك إسبانيا بمواجهة تالافيرا في دور ال32    اليونيفيل: التنسيق مع الجيش اللبناني مستمر للحفاظ على الاستقرار على طول الخط الأزرق    مانشستر سيتي يواجه برينتفورد في مباراة حاسمة بربع نهائي كأس الرابطة الإنجليزية 2025-2026    إقبال على التصويت بجولة الإعادة في انتخابات مجلس النواب بالسويس    باريس سان جيرمان وفلامنجو.. نهائي كأس الإنتركونتيننتال 2025 على صفيح ساخن    ضبط 8 متهمين في مشاجرة دندرة بقنا    سعر طن حديد التسليح اليوم الأربعاء 17 ديسمبر في مصر    طوابير أمام لجان البساتين للإدلاء بأصواتهم فى انتخابات مجلس النواب    متحدث وزارة الصحة يقدم نصائح إرشادية للوقاية من الإنفلونزا الموسمية داخل المدارس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شاعر الأرض والنكبة والعودة‏(2)
مبارك فشل في إنزال العلم الفلسطيني عن أكتاف المصريين
نشر في الأهرام اليومي يوم 02 - 03 - 2012

ومازلنا نسير علي درب عودة شاعرنا الكبير هارون هاشم رشيد والذي شاءت الأقدار أن يظل طوال سنوات عمره مقيدا بسلاسل قضيته الفلسطينية قابضا عليها تماما كالقابض علي الجمر, وشاهدا حيا علي تفجر روح المقاومة ضد الانجليز والصهاينة وسقوط الأبطال مضرجين بدمائهم التي خضبت الأرض المقدسة بلون الدم, وهو نفسه المناضل ذلك ظل دائما وأبدا يلوح بالحلم الفلسطيني.. حلم العودة متجسدا علي أرض الواقع ليروي شقوق الوجع بماء الحرية ويعود برتقال يافا بأريجه شرابا سائغا يزيل ارتشاف العلقم القادم من أعماق سنوات القهر والمذلة والهوان العربي.
ولأنه عشق التراب الفلسطيني, وسطر بأشعاره ملاحم النضال والصمود والتصدي شعرا ومسرحا ورواية لحكايات المآسي المفجعة, واكتوي بنيران الحصار والدمار والغربة الموحشة, فقد نسج قصائده علي صفحة البحر الفلسطيني من سني عمره الأولي مجسدا عذابات اليتم والقهر والتشرد بكل جوارحه, وظلت كلماته الثائرة المشحونة بالشجن تتأرجح بين التاريخي التحريضي تارة, وتارة أخري يلوح برايات الحرية ويحيي الثورات, ويجدد الآمال.
حرم نفسه من قصائد الرقة والحنين والنوارس البيضاء, وغادر أشعار الرومانسية ليتفرد في غزل عذري من نوع مغاير مفرداته الأمل في المستقبل, وأناشيد الغضب والكفاح, واضعا في اعتباره أنه لن يكون إلا معبرا عن نبض أجيال الاستشهاد والانتفاضة التي لم تنسها عواصف الغربة أشجار بلادها الخضراء تلك الأشجار الوارفة الظلال, وبرغم أنه عاش معظم عمره بعيدا عن الوطن, لكن ظل مثل سنديانة عتيقة تحط عليها النسور بجناحيها, قبل أن تحط الرحال في فلسطين في طريق العودة.
نستكمل مع شاعرنا في الحلقة الثانية ذكريات وحكايات أخري عن وطنه المسلوب وحلمه وايمانه العميق بأن الشعوب- لا القادة والزعماء ومائدات التفاوض- وحدها هي القادرة علي تجسيد حلم العودة فإلي التفاصيل..
أعلم مدي تعلقك الشديد بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر كرمز وقيادة وقدرة علي تجسيد حلم بلادك التي دخلت زنزانتها وأفنيت في محراب قضيتها كل سنين العمر.. هل تذكر لنا أول لقاء شعري لك معه ؟
في عام1958 أيام الوحدة والصحوة الكبري, كنت أصغر الأعضاء سنا ضمن وفد في غزة يضم أعضاء من المجلس التشريعي وبعضا من ممثلي الاتحاد القومي- كنت وقتها مسئولا عن الإعلام في غزة ومكتب إذاعة صوت العرب- وركبنا الأتوبيس ونحن لانعرف إلي أين نحن ذاهبون حتي وصلنا إلي مطار العريش وعرفنا من هناك أننا متجهون إلي دمشق لتهنئة الرئيس عبد الناصر بالوحدة, المهم أننا وصلنا في نهاية يوم رمضاني وتناولنا الإفطار في العاصمة السورية وأذكر أنه قبل أن نخلد للنوم تمهيدا للقاء عبد الناصر في صباح اليوم التالي جاء إلي غرفتي الصديق ورفيق الدراسة فاروق الحسيني عضو المجلس التشريعي الفلسطيني, وقال لي نحن دائما وفي كل مرة نذهب فيها إلي مناسبة تقتصر مشاركة الوفد علي كلمة لرئيس البلدية يقصد بلدية غزة وفي هذه المرة لابد أن تكون لدينا إضافة جديدة في لغة الخطاب بعيدا عن الشكل التقليدي الذي اعتدناه في عرض قضيتنا الفلسطينية.
قلت له ماذا تقصد ؟ فقال نريد أن يسمع عبد الناصر صوت الشباب في هذه المرة,, عليك أن تختار واحدة من قصائدك الوطنية الحماسية وما أكثرها- كي تلقيها أمامه غدا, قلت له: أتريدني أقرأ قصيدة قديمة أمام الزعيم عبد الناصر, قال: كل قصائدك تصلح لتأدية الغرض, قلت له أبدا, هذه مناسية تاريخية وخالدة, لذا أرجو أن تتركني الآن وسوف أكتب قصيدة تليق بالمناسبة وأعدك أن تكون جاهزة في الصباح.
خرج الحسيني في حالة اندهاش متسائلا وقبل أن يغادر الغرفة قال: كيف تقدر علي ذلك ؟ قلت له: الغرفة المجاورة لنا موجود بداخلها من أعضاء الوفد المصري عبد الجواد عامر شقيق عبد الحكيم عامر والحاكم العام وعليك أن تسألهما فقط: هل صحيح أنه يمكنني أن ألقي قصيدة بالفعل ؟, فذهب وسألهم بالفعل وعاد لي قائلا: استعد بقصيدتك.
في صباح اليوم التالي ذهبنا إلي قصر الضيافة, وبينما كنا نقف في نصف دائرة دخل علينا عبد الناصر وصافحنا جميعا, وبدأت مراسم الاحتفال, وبعد أن سمع ناصر كلمة رئيس البلدية, قال بالحرف الواحد: علمت أن بينكم شاعر شباب فلسطين, نريد أن نسمع شعرا من الشباب فقلت:
اضغط زنادك ياجمال.. نشد للوطن الرحال
دقت طبول النصر تهدر في الجنوب وفي الشمال
والوحدة الكبري أطل صباحها والليل زال
وتململ العملاق.. عملاق العروبة والنضال
يجتث ما صنع الفساد والانقسام والانفصال
ويردد الصوت الحبيب الحر يرعد بالمقال
لا قاسم منا ولا منا دعاة الانفصال
العهد: إنا علي عهد الثبات ولن نحيد عن الثبات
معسكرات في الجنوب و في الشمال مخيمات
أبدا باسمك ياجمال مرددات هاتفات
ترنو إليك حبيبها ومجيرها في النائبات
فاضغط زنادك تلتقي الرايات من كل الجهات
من ضمن ماقرأته لك عن عبد الناصر قصيدة كتبتها في رثائه وكنت تتمني أن تلقاه في القدس فيما بعد تحقيقا لحلم مشترك كان بينكما.. هل يعني ذلك أنك تنتمي إلي الحقبة الناصرية ؟
لا أنتمي إلي الحقبة الناصرية فحسب, بل إني مازلت وسأبقي ناصري الهوي وقد عانيت كثيرا جراء هذا الموقف في الماضي في ترحالي وأنا أحمل قضيتي علي كتفي, فقد شعرت منذ اللحظة الأولي أن الرجل كان صادقا ومخلصا, وكان بالفعل يعدنا علي طريق بالعودة, لكن كما قلت في مذكراتي الأولي وبالصورة: في1967 كنت أمام الجندي المجهول في غزة مشغولا في التجهيزات للاحتفال بذكري أيار جائتني سيارة عسكرية وناولني ضابط بداخلها رسالة من قيادة الجيش يعلن فيها عبد الناصر حالة الطوارئ, فحملت الرسالة, وذهبت لأسلمها لأحمد الشقيري مؤسس حركة التحرير الفلسطينية ورئيس لجنتها التنفيذية وكان معه لحظتها الفريق محمد فوزي, فقال بالحرف الواحد: سامحك الله ياعبد الناصر, والله مانحن مستعدون ولا هذا وقته, لكن هيا بنا ياهارون لتعبئة الجماهير, وبالفعل قمنا بالخطابة وبث روح الحماس في الجماهير, وكان لدي شعور جارف في هذه اللحظة بصدق عبد الناصر ليس في تحقيق حلم العودة فحسب بل أيضا في عدائه الشديد للحركة الصهيونية التي يعرفها تماما ويدرك خطورتها, ولذلك أشهد أن كل كلمة قالها في خطاباته بحس وطني ثوري جارف كان صادقا فيها.
قال عنك ناصر الدين الأسد في كتابه الاتجاهات الأدبية الحديثة في فلسطين أنك من أشعر الذين نظموا مأساة بلادهم, هل تري أن دواوينك قدمت رسالتها بالفعل واستطاعت أن تطرح القضية علي الضمير الإنساني ؟
وضعت القضية نصب عيني ومنذ الطفولة المبكرة, وكما قلت دخلت زنزانتها مبكرا جدا, وانطلاقا من إيماني المطلق بأهمية دور الكلمة التي هي أخطر مايوجه حالة اليأس, فقد حرصت علي أن تكون كل كلمة أقولها شعرا ومسرحا وقصصا إما مشعلا يضئ شمعة أو رصاصة في وجه العدو, وفي كل تلك السنوات التي مرت من عمري حاولت أن أحصي المنابر التي وقفت عليها في كل العواصم العربية تقريبا من مصر إلي السعودية فالجزائر وتونس والمغرب والأردن, وما من مكان ذهبت إليه إلا وكانت الحشود تملأ القاعات داخلها وخارجها, ليس لكوني أنا موجود فيها ولكن لأن هذه الجماهير تتجه في نفس الاتجاه الذي أذهب فيه نحو ذات القضية وتتوق لذات الحلم الفلسطيني النبيل.
ومن هنا يمكنني القول بأن الكلمة لها تأثيرها الواضح في الضمير الإنساني وقد رأيت ذلك بعيني, وقد كنت دائما أدعو للتعبئة وأقول: هؤلاء( الشعب الفلسطيني) سيصلون إلي ديارهم, وأذكر أنه في الزمن المضاع وتحديدا في بدايات النكبة قال أعداؤنا إن قضية فلسطين ستموت مع الزمن, بمعني: الكبار سيرحلون والصغار سوف ينسون, ولكن الواقع العملي أثبت أن الأجيال التي جاءت فيما بعد أشد ضراوة من التي سبقتها, بدليل حالات الاستشهاد التي رأيناها ومازلنا نعيش أجواءها حتي الآن, ولعل فكرة الفداء والإيثار وتقديم نماذج كثيرة من التضحيات جاءت من تربية وتذكير أبنائنا بأننا: عائدون.. عائدون.. إننا لعائدون ومن هنا لا يمكن أن تنسي تلك الأجيال بأن لها بلدا وقضية وترابا مقدسا تدنسه الأيدي الغاشمة في كل يوم وليلة وحتما لابد أن تمحي آثارها.
وأذكرأيضا أنه في يوم الأرض30 مارس في سخنين كتبت ملسلسل أذيع في صوت العرب مكون من30 حلقة بعنوان الحب في سخنين وقيل إنه عندما كان يذاع هذا المسلسل كانت تخلو الشوارع في المدن والقري علي السواء من المارة الذين كانوا يلتفون حول الراديو لسماع المسلسل, وهذ دليل علي أن الذين يوجدون داخل الأرض المحتلة في المخيمات والبيوت والحارات والدكاكين والورش والمدارس والجامعات ليس لهم سوي هدف واحد هو أن الحق المسلوب يجب أن يعود إلي أهله.
لكن دعني أستوضح أكثر: هل شعرت ذات مرة أن كلماتك أثرت في الضمير الغربي تحديدا وأنت تحمل قضيتك علي كتفك طائرا جريحا من بلد إلي آخر في محاولة لزعزعة الصهيونية عن ترابك المقدس.
دعني أنا أقول لك شيئا مهما: أنا لا أعول علي الضمير الغربي لأنه تربي دائما علي عكسه, وأضرب لك مثالا: عندما كتبت عن راشيل كوري تلك الفتاة اليهودية الأمريكية التي قتلتها جرافة عسكرية حاولت ايقافها عن هدم البيوت في رفح16 مارس2003, ووقتها كنت في مهمة بأمريكا, ولاحظت وأنا أتابع ردود الفعل في الصحف والتليفزيون أن القضية تحولت لحادثة عادية جدا ولا يشعرون بهاعلي انها علي الأقل كارثة إنسانية, وتساءلت وقتها في عجب: كيف لا ينحازون عبر وسائل إعلامهم لمواطنة أمريكية قتلتها إسرائيل مع سبق الإصرار والترصد؟, وحاولت تجسيد أسطورة التحدي لراشيل فيما بعد شعرا ورواية صدرت بالعربية والإنجليزية, ولكن لم تتغير الصورة في ذهن الإعلام الأمريكي, بل إن الانحياز للكيان الصهيوني ربما كان ومازال, وسيظل هو الأساس مهما ارتكبت إسرائيل من مجازر وانتهاكات لحقوق الإنسان.
وأضيف: للأسف الشديد فإن المنظومة الإعلامية العربية فشلت إلي حد كبير في رسم صورة حقيقية للقضية الفلسلطينية ولقد شقينا وتعبنا كثيرا لنصل لقرارات وتوصيات في الجامعة العربية وقت أن كنت مندوبا مناوبا لفلسطيني بها ولكن لا حياة لمن تنادي, وأذكر ذات مرة كنت عائدا لتوي من أمريكا ومعي تقرير طويل وعريض عرضته علي الجامعة العربية في محاولة لفهم كيف تفكر هذه المجتمعات وماهي الوسائل التي تمكننا من مواجهة الإعلام الغربي بذات الأسلوب الذي يعملون به من خلال مكاتب وشركات علاقات عامة يمكن استئجارها داخل الولات المتحدة كي تقوم بتغيير الصورة الذهنية لدي الناس العاديين في الشارع, وفي اجتماع لوزراء الإعلام في بيروت تمكنا من اتخاذ قرار بهذا الشأن وتم رصد مليون دولار وقتها كميزانية تقديرية في البداية ولكن ذهب المشروع في طي النسيان- تلك عادة عربية بامتياز- ولم تتحرك الدول العربية ولم يأت دولار واحد, وهذا يعني أن المنظومة الإعلامية العربية فشلت تماما في أن يملك إعلامنا القدرة علي مواجهة الإعلام الغربي, برعاية الجامعة العربية أو غيرها من الدول والحكومات التي لاتفعل شيئا سوي التشدق بكلمات منمقة واجترار جراح الماضي الأليم, رغم أننا أصحاب حق ولا نحتاج إلي أدلة دامغة تثبت حقنا في الأرض مقابل الكثير من المجازر الأسرائيلية التي ترتكب في حق شعبنا ومقدساتنا يوميا وأمام العالم كله.
إذا: هل يمكن القول بأن القضية الفلسطينية لم ترسخ في الضمير الغربي أو تراوح مكانها قليلا إلا مع تدشين عصر الصورة وتحديدا مع نشر صورة الطفل محمد الدرة التي التقطها مصور وكالة الأنباء الفرنسية طلال أبو رحمة في30 سبتمبر2000 ؟
هذه حقيقة مؤكدة إلي أبعد حد, ولاتنسي أن الصورة نقلتها وكالة غربية, صحيح أن الذي نقلها( طلال أبو رحمة) عربي لكنها ليست عبر وسيلة إعلام عربية, ومع ذلك لا ننكر لأنه كان لها تأثيرها أكبر مليون مرة من أي فعل عربي, فماذا لوكان العرب قد فعلوا نفس الشئ خلال52 عاما سبقت تلك الحادثة في عمر القضية الفلسطينية من خلال خطط إعلامية تعي وتفهم وتملك القدرة علي التأثير الفعلي في الضمير الغربي, وتتوجه لشعوب العالم من حولنا مجسدة أكبر مأساة وقضية في التاريخ الإنساني الحديث, وظني أن الضمير الإنساني كان سيتحرك لو أحسنا إعلاما بل كان العالم سيشعر بوخز في الضمير مع كل ارتعاشة يد لجندي إسرائيلي يصوب بندقيته نحو صدور عارية للعزل من الأطفال والنساء والعواجيز من أبناء فلسطين الذين يتجرعون مرارة الظلم والتشريد والضياع لأكثر من ستة عقود.
عام1977 قلت في قصيدة لك بعنوان أرفض غير بندقيتي وبأنك من قدمك لأم رأسك غارق في النار, ترفض أن تظل أمتك غارقة في العار, وإن يساوم المساومون وإن يزاود التجار.. هل تري أنه لابديل للبندقية في تحرير فلسطين رغم ما نراه من مفاوضات سلام ؟
أولا يتفاوض المتفاوضون علي ماذا, وأين تراهم وصلوا, ولن يصلوا, لي قصيدة بهذا المعني, وأقول من جديد: ولن يصلوا إلي شئ, فليس لنا إلا أن نواجه العدو الإسرائيلي بالسلاح, الرصاصة بالرصاصة, القنبلة بالقنبلة والتمسك بالقضية, وأسوق لك بعضا من تلك الروح العدائية تجري في عروقهم كما كتبها شاعر إسرائيلي يقول:
لو تخلي الفدائيون عن أسلحتهم وعقيدتهم
وأرسلوا بطاقات التهنئة لكل بيت يهودي
حتي لو شاركتنا المنظمة في بناء المستوطنات للمهاجرين الجدد
حتي لو أعلنوا أمام الملأ بأن الضفة الغربية أرض يهودية
حتي لوقامت فتح بنسيج القبعات الصوف ليهود إسرائيل
حتي لو استقبل أهالي الضفة جماعات موش أمونين
بالتهاني والزغاريد ورفعوا رايات الهزيمة أياما وليالي
حتي لو تحولت سيوفهم إلي أقلام ومساطر
لن نجالسهم أبدا ولن نتحاور معهم
تري ماذا ينتظر الفلسطيني بعد ذلك ؟, أنا لا أخترع كلاما, فقط أواجه عدوا بما يواجهني به, ودون ذلك لا أستطيع, وهذا كلام شعرائهم والشعراء هم ضمير الأمم والشعوب فما بالك إذا كان هذا راسخا في ضمائرهم, والسياسيون أيضا يسيرون في هذا الاتجاه وبالصراحة والوضوح, لكننا علي مايبدو نغمض أعيننا ونصم آذاننا عمدا وكأنما القضية برمتها لاتعنينا ونتشدق بالسلام المزعوم وننتقل من زمن مهان إلي زمن أكثر إهانة في تاريخ فلسطين.
رغم علمي ويقيني المطلق بحدس الشاعر لكن اخفي في الواقع حقيقة شعوري بأن هذا نوعا من الإسراف في التفاؤل في ظل التناقض الحالي بين طرف الحوار الفلسطيني فتح- حماس وعدم الاتفاق علي صيغة موحدة لمواجهة إسرائيل.. فماذا تري ؟
هذا لايقلقني ولايخيفي علي الإطلاق لأن القضية ليست قضية قيادات أو زعمات ولا أحزاب, ولكني أؤمن تماما بأن القضية قضية الناس.. قضية شعب, تصور30 عاما في ظل سياسة مبارك في مصر عمل فيها علي إسقاط القضية الفلسطينية تماما من ذاكرة المصريين- رغم ادعائه بأنه سند استراتيجي للقضية- فقد كان ينفذ أجندة محكمة في تخريب تلك القضية, ومع ذلك فشل طوال ثلاثة عقود أن ينزل العلم الفلسطيني من فوق أكتاف الشعب المصري, ولعلك لاحظت ولاحظ الكثيرون ارتفاع العلم الفلسطيني في ميدان التحرير في قلب فعاليات ثورة25 يناير في وقت عندما حدث حصار غزة وخرج أحد المواطنين المصريين بالعلم نسجوا حوله قصصا غريبة من خيالهم.
وعلي ذكر العلم فهذا يذكرني بشئ أحب أسجله: ففي عام1956 في أعقاب العدوان الثلاثي وانسحاب الإسرائيليين من سيناء كانت القناة لم تفتح بعد, فطلب من عبد الناصر أن يفتح القناة للملاحة, فأصر علي عدم فتحها إلا بزوال الاحتلال الإسرائيلي من غزة أيضا, فقالوا له ننسحب شرط أن يكون القطاع تحت علم دولي تابع للأمم المتحدة, ووافق علي ذلك لكن شيئا ما كان بداخله, وفي يوم7 مارس1957 استيقظ الناس علي اختفاء الجيش الإسرائيلي ودخول القوات الدولية رافعة علم الأمم المتحدة وأنزل العلم الإسرائيلي الذي حل محل العلم المصري علي سراي الحكومة.
لكن وضعا كهذا لم يروق لأبناء غزة فانطلقت الجماهير إلي الشوارع بعفوية مطلقة لأنها شعرت أن هذا يعني تدويل القطاع, وعلي هتاف يقول: لا استعمار ولا تدويل ولا بقاء لإسرائيل, ومن صوت العرب في أثناء وجودي بالقاهرة أطلقت نشيدا بهذا المعني وكان يذاع عدة مرات في اليوم الواحد, وانطلقت المظاهرات رافضة التدويل حتي وصلت ذروة الاحتجاجات يوم12 مارس- بعدها بخمسة أيام- وحاصر المتظاهرون سراي الحكومة وفي وجود القوات الدولية تسلل شاب اسمه محمد المشرف وسط المتظاهرين وصعد إلي سطح المبني الحكومي وأنزل علم الأمم المتحدة ورفع علم مصر, لكنه دفع الثمن عندما أطلقوا عليه النار فاستشهد علي الفور, ووصل الخبر إلي عبد الناصر فأصدر قرارا بتعيين الفريق محمد حسن عبد اللطيف حاكما لقطاع غزة, وأعاد الإدارة المصرية للقطاع مرة أخري, وعندما أتاه أمين عام الأمم المتحدة للقاهرة مهرولا وسأله ماهذا ؟, قال له: إنها إرادة الشعب, وهذا مايؤكد علي ما قلته سابقا أن إرادة الشعوب أقوي من القادة والزعماء ومن هنا لا يقلقني خلاف الفصائل الفلسطينة الحالية.
وردة علي جبين القدس أيضا قصيدة أهديتها لعبد الهادي سليمان ابن معسكرات النصيرات في غزة, بطل عملية الحافلة رقم405 علي طريق القدس, وغيرها من قصائد ترثي الشهداء وتجسد البطولات, هل تعمد الكتابة عن هؤلاء كنوع من التوثيق لحكايات هؤلاء المناضلين من أبناء فلسطين ؟
هذا ما أقصده بالتاكيد وأحرص عليه كي تظل تلك البطولات محفورة في ذاكرة الأجيال, ومن هنا أحب أن أقول لك: كتب عني في الأهرام العام الماضي مقالا بعنوان: هارون هاشم رشيد.. شاعر النكبة.. شاعر العودة.. شاعر الثورة, وأريد أن أضيف وبلا مواربة: مؤرخ فلسطين شعرا.. لماذا وماذا أهدف من وراء كل هذا ؟
وهدفي الأسمي دوما ودائما ألا يكون الحدث العظيم مجرد سطرين أو فقرتين تحكيان قصة الشهيد فلان أو فلانة, أو حتي مجرد نسف بيت لفلان أو فلان, بل أريد أن أرسخها قصصا بطولية ووجدانا شعرية يرسخ في وجدان الإنسان العربي بحيث أنه كلما أعيد قراءة تلك البطولات تعيد الصورة من جديد إلي ذاكرة الإنسان العربي أينما كان, ومن هنا وثقت لقصة هذا الشاب الذي ركب أتوبيسا إسرائيليا في القدس وتعمد أن يسقطه من مكان عال ليموت مع كل ركابه, وشاء القدر أن يقبض عليه في نفس اللحظة حيا وحكم عليه بالسجن في الحال.
قصة عبد الهادي سليمان ابن معسكرات النصيرات في غزة وغيرها من البطولات لا يمكن أن تخلد في ذهن الإنسان إلا إذا تجسدت في قصيدة أو مسرح أو رواية, ومن هنا يصبح هدفي كما أكدت من قبل- أن تؤرخ القصيدة للقضية كي تتعلم منها الأجيال وتقتدي بها, ومن أجل ذلك حرصت علي توثيق كل حكايات الشهداء والمناضلين في تاريخ القضية حتي لاتصبح حكايات وقصص بطولات هؤلاء مجرد حدث أو خبر عابر بل وقودا يبعث علي الأمل في عودة الوطن الجريح وسيادة أهله علي التراب المقدس الذي روي بدماء أبناء هذه الأرض.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.