أعلم أن كلمة «شروط» هنا قد تستثير البعض ممن يروجون لمقولات من قبيل: أن الإبداع حرية مطلقة، وأن الإبداع لا سقف له، وهى المقولات التى تشيع عندما يتم مصادرة عمل أدبى ما من جانب مؤسسات الدولة الرسمية التى تتدخل فى شئون النشر. وكلما حدث هذا الأمر نشبت المعارك الوهمية بين المثقفين التى تتخذ عادة طابعًا شخصيًا، وكأن الحدث مناسبة لتصفية حسابات خاصة أحيانًا، وتفريغ لإحباطات نفسية وإخفاقات إبداعية أحيانًا أخرى. ولا شك أنه لا يمكن لمثقف حقيقى أن يقبل مصادرة أى عمل أو مطبوعة أدبية، ولكن لا يمكن لهذا المثقف فى الوقت ذاته أن يقبل (عن قناعة أو رضا) تصنيف أى عمل كان ضمن فئة الإبداع الأدبي، لمجرد أنه يطرح نفسه فى إطار الأدب؛ لأنه يعلم أن الإبداع الأدبي - بل أى إبداع - له شروطه الذاتية الخاصة؛ وهذا أمر لا يتناقض مع وصف الإبداع بأنه حرية مطلقة، وبأنه لا سقف له. وفى هذا يكمن مناط الالتباس والخلط الذى يقع فيه الكثيرون ممن يمثلون السلطة الرسمية ومن يدافعون عن سلطة الأدب والفن عمومًا. حقًا إن الإبداع حرية مطلقة لا سقف لها، ولكن بشرط أن يكون إبداعا أولاً؛ فإبداعية العمل هى التى تهبه حريته وسلطته المطلقة فى مقابل أى سلطة أخرى، سواء أكانت سلطة المؤسسة الرسمية أم سلطة الذائقة الشعبية الشائعة أو المتوارثة، أو ما يمكن أن نسميه سلطة الحس الجمعى المشترك (وهى بالمناسبة سلطة قادرة على أن تصحح نفسها عندما تخطئ). ولهذا فقد حرصت على استخدام كلمة «شروط» فى عنوان مقالي. وأنا لا أعنى بكلمة «الشروط» هنا تلك المعايير الخاصة بالأشكال الفنية والأدبية التى تتغير من عصر إلى آخر، وإنما أعنى المبادئ الأولية الضرورية اللازمة لكل إبداع أدبى مهما اختلفت العصور، واختلفت معها الأشكال الفنية بفعل الثورات الفنية ذاتها. كل إبداع أدبى يكون فى اللغة ومن خلالها. ولكن ما يميز لغة الأدب أنها «لغة إيمائية» كما يعلمنا ميرلوبونتى فى دروسه المطولة عن «الإيماءة»، وهذا يعنى أنها لغة «إيحائية»، أى لغة «مراوغة» تبلغ هدفها دائمًا بطريقة غير مباشرة. ولذلك يمكننا القول بأن كل تعبير مباشر فى الأدب ينطوى على فجاجة، وعلى نوع من السقوط فى شرك الابتذال. ولهذا أيضًا تعمد لغة الأدب بدرجات متفاوتة إلى التعويل على المجاز، وعلى الصور المتخيلة التى تتجاوز الواقع فى مباشرته ومعطياته الساذجة التى تحتاج دائمًا إلى تصوير وتخييل، كيما يمكن اقتناص حقيقتها ودلالتها الإنسانية العامة. وفضلاً عن ذلك، فإن لغة الأدب فى عمومه ليست هى لغة الاتصال التى نستهلكها فى فعل الكلام العادي؛ وإنما هى لغة مقصودة لذاتها، فيها- أعنى فى بنائها وصوتياتها- يكمن معنى الكلام. ولا شك أن ثقل العلاقة بين الصوت والمعنى تتفاوت بين فنون الأدب: فهذا الثقل يميل بقوة إلى جانب الصوت فى حالة الشعر، ولكنه يظل حاضرًا فى فنون الأدب الأخرى، ومدى ثقل هذا الحضور هو الذى يخوِّل لنا الحديث عن «شعرية الرواية» على سبيل المثال. ولذلك فإن ما يميز الشعر- مهما كان قالبه- هو أن المعنى فيه يكمن بقوة فى صوتيات الكلام؛ ومن ثم فى موسيقاه، ظاهرة كانت أم باطنة. ومن ضرورات الإبداع الأدبى أن يهتم المُبدِع فى المقام الأول ببناء الموضوع الجمالى وتأسيسه داخل بنية عمله الأدبي. ولكننا للأسف نجد بعض المبدعين فى واقعنا - خاصةً فى مجال الرواية - لا يلقون بالاً إلى هذا الشرط الجوهرى البدَهي، ويكيفون أعمالهم لخدمة أغراض أخرى تضر ببناء العمل الأدبى وبمضمونه نفسه؛ ومن ثم بقيمته الفنية والجمالية. ومن ذلك - على سبيل المثال - أن يكتب الأديب عمله وعينه على ترجمة العمل إلى اللغات الأجنبية الذائعة، فتراه يختار موضوع نصه الأدبى أو يقحم عليه موضوعات فرعية مما يمكن أن يلقى قبولاً لدى القارئ الأجنبى أو حتى يخدم التوجهات السياسية فى العالم الغربي. ويمكن أن نضرب مثلاً على ذلك برواية «بنات الرياض» التى كانت ذائعة الصيت منذ عشر سنوات تقريبًا، والتى احتفى بها الناشر مثلما احتفى بها بعض كبار النقاد باعتبارها تعمل على كشف وتعرية المسكوت عنه فى الحياة الاجتماعية السرية داخل المجتمع السعودي. وأذكر هنا أننى حضرت ندوة فى دولة الإمارات آنذاك، كانت مخصصة لمناقشة هذه الرواية، وقلت صراحةً انه لا يعنينى موضوع العمل بقدر ما يعنينى إبداعيته، وأننى لا أرى فى هذا العمل أى إبداعية سواء على مستوى الخيال والبناء الروائى أو اللغة التى تُشيِّد هذا الخيال والبناء، وهو ما قمت بالكشف عنه وتعريته. ومن ذلك أيضًا أننا نجد فى واقعنا - خاصةً خلال العقدين الأخيرين- أدباء وأديبات متلهفين على الشهرة والترويج الإعلامى من خلال تبنى موضوعات إباحية ولغة تشبه لغة «البورنو» فى أعمالهم، فتراهم يسطحون مفهوم الجسد فى أعمالهم بحيث يحولونه إلى مجرد موضوع جنسى مبتذل، كما لو كان هذا الجسد لا تسكنه روح أو عقل؛ ولذلك فهم لا يحسنون حتى التعبير عن لغة الجنس أو عن الجسد حينما بعبر عن نفسه كموضوع جنسي. ومن هنا فقد أصبحنا نرى كاتبات تستخدمن أساليب غير فنية ولا تحسب على الإبداع، كأن تستخدم المؤلِّفة لغة «الأنا» فى السرد؛ لإيهام القارئ بالصدق الفنى من خلال التوحيد بين شخصها كمؤلفة للرواية وبين بطلة الرواية أو الشخصية الرئيسة فيها، ثم تتعمد بعد ذلك إقحام وصف تفصيلى مباشر للرغبات والممارسات الجنسية على نحو يشبه مشاهد «البورنو» المصورة بلغة الكاميرا، وكأنها تدعو القارئ إلى التلصص عليها شخصيًا من ثقب الباب، تمامًا مثلما يفعل صانع فيلم البورنو حينما يهدف إلى استثارة الشبق الجنسى لدى المشاهد. هذا وأشياء من هذا القبيل أصبحت شائعة فى كتابات الأدباء والأديبات فى واقعنا الراهن الذين يكتبون وعينهم على الشهرة والترويج الإعلامي، وعلى الجوائز التى يمكن أن تمنحها بعض المؤسسات الأجنبية بناء على هذا الترويج الإعلامي، ولأغراض لا علاقة لها بالإبداع والقيمة الفنية؛ ومن ثم فإن عينهم فى النهاية تكون مُسلَّطة على دور النشر الأجنبية التى يمكن أن تترجم أعمالهم، وهم يبذلون فى سبيل ذلك كل جهدهم الأدبى وغير الأدبي. ينسى هؤلاء جميعًا أن نجيب محفوظ لم يسع إلى جائزة، ولم يكتب من أجل أن تترجم أعماله؛ فجاءته أرفع الجوائز وترجمت أعماله إلى لغات لا حصر لها؛ لا لشيء سوى أنه عكف على أدواته الفنية فى البناء الروائى لشخصيات لها دلالة إنسانية عامة، ولكنها تحيا فى سياق زمانى مكانى خاص، وفى لحظة تاريخية مشخَّصة من تاريخ وطنهم. ولا شك أن هناك مستحقين لجائزة نوبل من السابقين واللاحقين على نجيب محفوظ، يكفى أن نذكر منهم على سبيل المثال طه حسين، ولكن مثل هذه القامات الأدبية الرفيعة حفرت مكانها فى تاريخ الأدب وفى وجدان شعبها بحروف من نور. وقل مثل ذلك فى سائر الفنون الأخرى. وفى رأيى أن هذه الاعتبارات السابقة هى ما ينبغى أن يحكم توجه المؤسسات الرسمية والمثقفين معًا إزاء الإبداع: فالمؤسسات الرسمية ينبغى أن تترك تقييم هذا الأمر للمثقفين والمبدعين أنفسهم؛ على افتراض أن كل ما ليس له قيمة إبداعية سوف يسقط من تلقاء نفسه. ولكن هذا يقتضى فى الوقت ذاته أن يكون المثقفون والمبدعون على مستوى المسئولية، بحيث يكون ما يشغلهم فى المقام الأول هو الإبداع ذاته، بدلاً من الاقتصار على الدخول فى صراع وهمى مع هذه المؤسسات. فالإبداع الحقيقى هو السلطة المطلقة، وتحققه هو مبرر وجوده الشرعى فى مواجهة أى وجود آخر واقعي؛ لأن الإبداع الحقيقى يمكن أن يحتمى دائمًا بقدرته على «المراوغة» و «اللامباشرة» و « والتخييل»؛ ومن ثم فإنه يحتمل التأويل دائمًا، أى أنه يكون حمَّال أوجه. وهذا هو ما يتيح له التملص من أى سلطة، وإن كانت غاشمة. ولهذا؛ فإن ما ينبغى أن ينشغل به المبدعون الحقيقيون هو سلطة الإبداع ذاته، لا البحث عن مدى اقترابهم أو ابتعادهم عن أى سلطة أخرى.