قضى المفكر العربي «عبد الله القصيمي» حياته ما بين بيروتوالقاهرة، لكن بيروت ظلت لديه هي الأرض، التي اقتلعوا جذوره منها، رغم أنه سعودي مولدا، إماراتي نشأة، وعندما مات في أحد مستشفيات القاهرة بتاريخ 9 يناير 1996 كان نعيه والإحساس بفقده، يأتي من بيروت، حين كتب الشاعر الراحل «أنسي الحاج»: «لقد قتلوا عبد الله القصيمي يوم أجبروه على مغادرة لبنان قبل ثلاثين عاما». كان «الحاج» قد كتب عنه من قبل: «هذا الرجل القادم من الصحراء الرافض كل شيء، الحر في وجه كل شيء، يتكلم كالشهيد الحي، ماذا يريد؟ يريد أن يفرغ الدنيا العربية من نفسها، ويؤلفها على الحرية والعقل والكرامة، كتبه فضيحة تاريخية». ومن قبل أيضا كتب «أدونيس» عنه:» لا تستطيع أن تمسك به، فهو صراخ يقول كل شيء، ولا يقول شيئا، يخاطب الجميع ولا يخاطب أحدا»، هنا «أدونيس» يختصر الرجل، مسيرة ومسارا، ف»القصيمي» المولود في العام 1907 في إحدى قرى القصيم بالمملكة العربية السعودية، تتضارب الآراء حول تاريخ ميلاده وانتمائه العائلي، فهناك من يشكك في جذوره النجدية، ويذهب إلى أن أحد أجداده كان ضمن حملة إبراهيم بن محمد علي باشا على الحجاز عام 1816. وفيما كتبه «عبد الله القفاري» في كتابه الصادر بالقاهرة عن «مركز المحروسة» بعنوان «عبد الله القصيمي .. حياته وفكره» تفنيد لكل الآراء التي تواترت حول أصول ونشأة هذا المفكر العربي المغبون، الذي عاش في بيئة فقيرة طاردة، قادته الأقدار إلى مدينة الرياض، ومنها إلى الشارقة حيث وجد طريقه إلى التعلم الحقيقي، وكانت أولى المحطات على طريق السعي وراء العلم والتعلم في جنوبالعراق، ومنه إلى الهند، ليلتحق بعد ذلك بالأزهر الشريف عام 1927. كانت القاهرة آنذاك مشغولة بمعاركها الخاصة حول الخلافة الإسلامية، في أعقاب إلغائها على يدي كمال أتاتورك في العام 1924، وكان 16 عالما من علماء الأزهر قد وقعوا بيانا بعنوان «خلع الخليفة غير شرعي» ودعوا لعقد مؤتمر بهذا الشأن، وفي العام التالي أصدر الشيخ على عبد الرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم» ينفي فيه أن يكون لنظام الخلافة صلة بالإسلام، مفوتا الفرصة على الملك فؤاد في أن يخلع على نفسه لقب خليفة المسلمين. كان الصراع السياسي حول الأحق بالخلافة محتدما بين الملك عبد العزيز آل سعود والملك فؤاد، ووقعت تبعات ذلك على الطلاب الذين يدرسون في الأزهر، وفي يونيو 1926 هاجم بعض السعوديين قافلة المحمل المصري، فازدادت الخلافات حدة بين البلدين، وفي ظل الهجمة الأزهرية على «الوهابية» كتب القصيمي أول مؤلفاته «البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية» ردا على مقالات كتبها الشيخ يوسف الدجوي في موضوع الخلافة. أثار الكتاب عاصفة من الانتقادات من جانب مشايخ الأزهر، لما رأوه من تطاول شاب لم يبلغ الثالثة والعشرين من العمر، ولذا قررت هيئة علماء الأزهر طرده من الأزهر، بل طلب البعض من إسماعيل صدقي - رئيس الوزراء آنذاك - أن يطرده من مصر، لكنه رفض وقال لهم: «ردوا عليه». نزع الدجوي عن الشاب الصغير صفة تأليف الكتاب ونسبه إلى الشيخ رشيد رضا صاحب «المنار» الذي نفى ذلك بدوره قائلا: إنه يستطيع التعبير عن أفكاره بنفسه ولا يحتاج إلى التخفي وراء اسم آخر، بل إنه قال إن «القصيمي اكتسح هؤلاء العلماء بمعرفته الواسعة وأخجلهم». بعد طرده من الأزهر، كان يتلقى معونة من بلاده ساعدته على تأليف عدة كتب منها «شيوخ الأزهر والزيادة في الإسلام»، و»نقد حياة محمد» ويتصدى فيه لكتاب الدكتور محمد حسين هيكل الشهير «حياة محمد»، لكنه قال عن هذه الكتب: «ما أروع نسيانها وتركها في مقابرها التاريخية». في هذه المرحلة كان يتم توظيفه سياسيا، إلى أن ألَّف كتابه «هذي هي الأغلال» الذي شكل صدمة للعقل السلفي الجامد، لكنه استسلم بعده لست سنوات من الصمت، راجع فيها أفكاره السابقة. كان العام 1946 فاصلا في حياته الفكرية، فصدور «هذي هي الأغلال» لم يكن قطيعة مع ماضيه السلفي، لكنه كان تحولا كبيرا في مستوى تعاطيه مع قضايا صدمت في جرأتها ومعالجتها الأوسط الدينية والثقافية حين ذاك، وأحدثت صدى كبيرا تجاوز مصر، ليصل إلى السعودية وبعض البلدان العربية كلبنانوالعراق». كانت ردود الفعل قاسية، وجاءت في شكل كتب ورسائل صدرت في السعودية، ومنها كتاب «بيان الهدي من الضلال» للشيخ إبراهيم السويح الذي يقول فيه «إن «القصيمي»: «مغرور ومتعجرف، وهذه المبالغة في تقدير الذات تجعله يعتبر الحضارة الإسلامية كلها خلال الألف عام الأخيرة سائرة إلى طريق بعيدة عن الصواب» وقام أحد زملائه في الأزهر بشن حملة شرسة عليه، واستعدى العديد من الشخصيات النافذة في السعودية ضده. وفي القاهرة لقي الكتاب تأييدا كبيرا، فإسماعيل مظهر وقف بجانبه وكتب عنه، لكن الدعم الحقيقي جاءه من الشيخ محمود شلتوت (أصبح عام 1958 شيخا للأزهر) وفي مجلة «الرسالة» يكتب «العقاد» إن «الكتاب تعبير شجاع عن الرأي لرجل لا يخاف من أن يفقد سمعته بسبب تعرضه للمحرمات» في حين كان «سيد قطب» من أشد المهاجمين للكتاب، ففي مجلة «الهدي النبوي» وصفه بأنه «هجوم على القيم الجوهرية للدين الإسلامي» وكان الأشد وطأة على رجل أهدر دمه في بلاده، أن تطالب «جمعية الشبان المسلمين» باتخاذ الإجراءات القانونية والسياسية ضده، حيث تأسست لجنة من خصومه، أطلق عليها « لجنة مكافحة هذي هي الأغلال» بهدف الضغط على الحكومة المصرية والقضاء لمنع الكتاب وطرد مؤلفه من مصر. هذه التحركات، دعت الشيخ «أمين الخولي» لأن يفتح نقاشا حول الكتاب في جامعة القاهرة، وبعد النقاش أرسل المشاركون فيه برقية إلى الجهات الحكومية، يدافعون فيها عن الكتاب ومؤلفه، بل إن «أحمد حسين» – زعيم الحزب الاشتراكي التقدمي – نقل في مقال كتبه بمجلة «مصر الفتاة» عن الشيخ «شلتوت» أنه استعمل أقوى العبارات في الإشادة بالكتاب، وعبر عن أسفه من أن جامعة الأزهر، بصفتها أكبر مؤسسة تعليمية إسلامية، لم تتمكن خلال تاريخها الطويل، الذي امتد إلى ألف عام، من وضع كتاب بمستوى «هذي هي الأغلال». لم يكتف هؤلاء بدعم الكتاب، بل إن الشيخ مصطفى عبد الرازق وإسماعيل مظهر وأحمد حسين كتبوا رسائل إلى الملك عبد العزيز آل سعود عرضوا فيه موقفهم من الكتاب، وخابت الحملة الداعية لطرد القصيمي من مصر، لكن في صيف 1954 صدر قرار سياسي بإبعاده إلى بيروت، ليبدأ فصل جديد من حياته في لبنان قبل أن يلغى قرار الإبعاد من مصر عام 1956، ليعود إليها، وتظل بيروت هي البيئة المفضلة له لمعاودة نشاط في نشر كتبه اللاحقة.