دعا الإسلام وجميع الأديان والشرائع السماوية إلى فضيلة التسامح، وجعله خلقا من الأخلاق الحميدة التى يتعامل بها الناس فيما بينهم، وذلك قبل تخصيص منظمات المجتمع الدولى يوما للاحتفال باليوم العالمى للتسامح فى شهر نوفمبر من كل عام. قال تعالى «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين»، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال» رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى»، وقال صلى الله عليه وسلم «حُرِّمَ عَلى النَّارِ كُلُّ هَينٍ لَينٍ سَهلٍ ، قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ » . من جانبهم دعا علماء الدين إلى إحياء منظومة قيم الأخلاق فى المجتمع عامة، ومن بينها خلق التسامح، مستنكرين تجاهل الإنسان لهذه الفضيلة، مؤكدين أن التسامح ليس معناه أن نتجاوز عن جرائم المخربين والمجرمين وعدم معاقبتهم، بل يجب تطبيق العقوبات عليهم حتى لا يكونوا أسوة لفساد غيرهم. ويقول الدكتور مختار مرزوق عبد الرحيم عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر بأسيوط، إن من المعلوم لكل دارس لسنة النبى صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، أن الإسلام دين يقوم على التسامح، بكل صوره وأشكاله، فمنه التسامح مع النفس، والتسامح مع الآخرين، فقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وأعطاه العقل، وجعله حرا فيما يريد ويختار، ولكن يعلم انه مسئول عن اختياره فى يوم الحساب، قال تعالى «..لكم دينكم ولى دين»، وقال أيضا سبحانه» لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». تطبيق عملى وأوضح انه اذا نظرنا إلى التطبيق العملى لفضيلة وخلق التسامح، نجد أن النبى صلى الله عليه وسلم، قد أمر بتطبيق المعاملة الحسنة مع المسلمين وغير المسلمين، وقد عقد رسول الله المعاهدة المشهورة وهى وثيقة المدينة، حينما هاجر إلى المدينةالمنورة، وقد عرفت هذه المعاهدة بأول وثيقة لحقوق الإنسان عرفها التاريخ، حيث نصت بنود تلك الوثيقة على مبادئ حقوق المواطنة كاملة لكل من يعيش فى المدينةالمنورة، سواء من المسلمين أو غيرهم من اليهود والمسيحيين، كما نصت بنود هذه الوثيقة على جميع ساكنى المدينة حق الدفاع عن وطنهم المدينة ضد أى معتد او عدو خارجى، وأيضا أن يقتص للمظلوم من ظالمه، ليعم الأمن والأمان ربوع المدينة، مشيرا إلى أن نجاح تطبيق مثل هذه الوثيقة مرهون بمجتمع ينشر بين جميع أفراده ثقافة التسامح والعفو وعدم حب النفس، وإيثار الآخر، وبالفعل كانت النتيجة كذلك، حتى نقض اليهود وحلفاؤهم العهود والمواثيق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فكان جزاؤهم الطرد والخروج من المدينةالمنورة. وأشار إلى أن من النماذج التى تدل على أن الصحابة والتابعين طبقوا فضيلة التسامح مع النفس والآخرين، ما رواه الإمام البخارى فى أدب المفرد، عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، انه ذبح شاة، فقال لغلامه هل أعطيت جارنا اليهودى من الذبيحة، فقال له لا، فكرر عليه طرح السؤال ثلاث مرات، عندها قال له غلامه، لماذا تسألنى أكثر من مرة عن جارك اليهودى؟ فقال عبد الله بن عمر رضى الله عنهما:لقد سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول «ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت انه سيورثه». وأكد ان فضيلة التسامح تنطلق من العقيدة القوية للمؤمن، لذا طبق الصحابة رضوان الله عليهم وأكابر التابعين من بعدهم وكذلك الصالحون، هذه الفضيلة التى غابت عن مجتمعاتنا فى العصر الحالى إلا من رحم ربى، حتى توهم البعض أن من يطبق هذه الفضيلة، هو من قبيل ضعفه، والعكس هو الصحيح، فمن المعلوم ان التسامح والعفو لا يتأتيان إلا مع القدرة على اخذ الحق، والأمثلة من الواقع المعاش واضحة وجلية، فكلما ساد التسامح والعفو فى المجتمع، تحقق الأمن والأمان لجميع أفراده، وكلما غابت قيمة التسامح تحول المجتمع الى غابة، والنتيجة كما نرى ونسمع ونشاهد حاليا. وأشار إلى أن الإسلام حينما يدعو إلى نشر والتخلق بخلق التسامح، فهذا ليس معناه، ألا تتم معاقبة المسىء والمجرم على خطئه وجرمه، فلو أننا طبقنا القانون تطبيقا حاسما على كل بلطجى يقطع الشارع أو إرهابى يفجر قنبلة فى الناس أو المنشآت العامة او الخاصة، او نقتص من كل قاتل قتل إنسانا عمدا، لصلح امر الجميع، ولنا فى القرآن العبرة والعظة والتعلم، قال تعالى «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون «، وكل ذلك لا ينافى فضيلة التسامح والرحمة والمودة، وها هو رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم قد طبق العقوبة على المجرمين، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما ورد فى الصحيح»...والذى نفس محمد بيده لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها». وسائل متعددة وعن كيفية نشر قيمة التسامح بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وغيره، وتأثير ذلك فى المجتمع، يقول الدكتور نبيل السمالوطى استاذ علم الاجتماع بجامعة الازهر، إن نشر فضيلة التسامح تكون بعدة وسائل، منها التوعية الدينية الصحيحة فى الأماكن التى يرتادها الناس سواء فى بيوت الله أو الأندية الاجتماعية وأماكن التعلم ومراكز الشباب، من خلال ندوات توعية مكثفة توضح للناس ما لهذه الصفة الحميدة من تأثير طيب على الجميع، مشيرا إلى ضرورة ان تكون هناك مادة للأخلاق وحسن المعاملة يتم تدريسها فى مختلف مراحل التعليم بدءا من الابتدائية وحتى المرحلة الجامعية، بحيث تشتمل هذه المادة على كل ما يدعو الى الفضائل، ومن بينها بالطبع فضيلة التسامح، والابتعاد عن كل الأفعال القبيحة والسيئة، ويقوم على وضع هذه المادة علماء متخصصون مشهود لهم بالوسطية والاعتدال، بحيث يضعون منهجا سلسا بعيدا عن الغلو والتطرف، يسهل على الجميع فى مراحل التعليم من التلاميذ والطلاب استيعابه وفهمه فهما صحيحا. وشدد على ضرورة ان يقوم علماء ورجال الدين من المسلمين والمسيحيين بدورهم فى هذا الصدد، بحيث يركزون فى دروسهم وعظاتهم على الموضوعات الاجتماعية الدينية ذات الصلة بواقع الناس، خاصة في المعاملات بين الرجل وزوجته وأولاده، بحيث يتم تطبيق قانون الفضل بينهم حتى تسير الحياة إلى الأفضل، مع توضيح كيفية تربية النشء على الصفات والمبادئ والأخلاق الحميدة، بالإضافة إلى دور وسائل الإعلام (المسموع والمقروء والمرئى) التى عليها رسالة مهمة في هذا الشأن لما لها من تأثير كبير وقوى فى قطاع كبير من أفراد المجتمع، وذلك من خلال تقديم برامج توعية دينية اجتماعية، بدلا من البرامج التي تبحث عن الآراء والفتاوى الشاذة والغريبة التي أربكت وأحدثت بلبلة وفتنة بين الناس.