تصادفت زيارتى إلى واشنطن الأسبوع الماضى مع إحدى أزماتها الداخلية المتكررة: إطلاق النار على مراهق أسود من جانب رجل بوليس أبيض خلال إحدى المناوشات البسيطة فى مدينة فيرجسون بولاية ميسورى، توفى هذا المراهق الأسود، مايكل براون. للتذكرة فإن مدينة واشنطن العاصمة تنتمى عرقيا إلى الجنوب، حيث تكون غالبية السكان من السود، أو ما يسمى الأمريكيين الأفارقة، ومعظمهم من الناحية الاقتصادية والاجتماعية من المهمشين أو المعذبين فى الأرض، بل هم ضحية تفرقة عنصرية شديدة فى بعض ولايات الجنوب، حيث ينظر إليهم كبقايا من العبيد، ولم يسمح لهم بركوب نفس الأتوبيسات مع البيض أو الاختلاط فى نفس الأماكن.. وقد يتذكر بعضنا أن الرئيس أوباما نفسه ذكَّر فى خطاب توليته أنه فخور بالتغير فى المجتمع الأمريكى لأنه منذ سنوات قليلة لم يكن متاحا لمن هم بلون بشرة أبيه أن يدخلوا أحد المطاعم المجاورة للبيت الأبيض. قد لانكون نحن هنا فى هذه المنطقة على إلمام بهذه المحنة الأمريكية، ولكن هذه المحنة هى ما لفتت نظر الاقتصادى السويدى البارز والحائز على جائزة نوبل جونار ميردال عندما وطئت قدماه الولاياتالمتحدة. هذا هو إذن السياق الذى تم فيه إطلاق النار على المراهق الأسود وقتله: شعور الغالبية السوداء بالتهميش وحتى الظلم فى مجتمع يسوده الرخاء. ثم جاء قرار المحلفين لتبرئة رجل البوليس الأبيض، بأنه كان يقوم بعمله لحفظ النظام والأمن وأطلق النار ضد براون فى حالة دفاع عن النفس. قتل مايكل براون الأسود لم يكن إذن مع سبق الإصرار والترصد. توقع الجميع المظاهرات العارمة للاحتجاج على الحكم. حتى أن الرئيس أوباما تدخل بنفسه فى خطاب علنى يطالب بأن تكون المظاهرات والاحتجاجات سلمية، وكذلك طالب بذلك والدا مايكل براون، ولكن هذا لم يمنع بعض الهجوم على البوليس والممتلكات العامة وحتى إحراق عربة بوليس، بل تعدت هذه المظاهرات مقر إقامة مايكل براون لتنتشر فى مدن أمريكية أخرى، لم يكن الاحتجاج ضد ما اعتبر حكما جائرا فقط، ولكن ضد المنظومة القانونية نفسها، والذى اعترف بقصورها الرئيس أوباما نفسه. وهو رجل القانون الذى درسه فى جامعة شيكاغو وقام بتدريسه فى جامعة هارفارد. قامت الدنيا إذن من أجل قتل مايكل براون، ولكنها قعدت والسؤال المهم: لماذا قعدت؟ بل إنه بالرغم من أن المظاهرات والحرق وحتى التدمير كانوا فى مركز اهتمامات واشنطن نفسها، فإن كل شىء كان عاديا. تعمل مكاتب الحكومة، وتستمر المواصلات، والمرور فى بقية المدينة تمام التمام، بينما بعض زعماء الغالبية السوداء ورجال القانون والبوليس يتشاورون لاحتواء الأزمة دون المساس بالحكم الصادر من المحلفين، وكثير منهم ليسوا من المتخصصين فى القانون، ولكنهم يمثلون طوائف المجتمع المختلفة ومشهود لهم بالنزاهة لماذا إذن قعدت الدنيا، ولم يمتد الحريق ويصيب المجتمع كله بالشلل، بالرغم من أن أزمة العلاقة بين السود والبيض متوطنة فى كثير من الولايات؟ الإجابة باختصار أن هذه دولة مؤسسات وليست دولة أفراد يوجهون السلطة حسب مزاجهم الخاص. فبالرغم من أن أوباما من الأقلية السوداء، وكذلك هو دارس قانون ثم إنه رئيس للدولة، فإنه أظهر تحفظه على القانون المطبق ثم ترك العمل للخبراء ليقوموا بعملهم، كما أن البوليس كان حريصا على الخضوع للتحقيق فى كل ملابسات الموقف، والتزام الشفافية مع وجود فيديو لسلوك مايكل براون وزميله وكذلك رد فعل رجل البوليس، كما أن اختيار المحلفين ومؤهلاتهم الشخصية والاجتماعية كانت على الطاولة منذ البداية ولم يصدر ضد أى منهم تلميح بأنه يدافع عن مصلحة شخصية أو لم يلتزم بدقة بمعرفة كل تفاصيل الحادث والالتزام بالنزاهة التامة. باختصار فإن المؤسسات الفعالة تقوم بعملها، وتقوم بهذا بمنتهى الشفافية، وتصبح العملية كلها ذات قدر كبير من المصداقية، وكله محل نقاش ومفاوضات لحل المشكلة. هناك نقطة أخرى فى هذه التجربة، فيجب أن ندرك أن واشنطن شبه عاصمة العالم من الناحية السياسية والعسكرية، فإن اهتماماتها وعلى أعلى المستويات قد يكون مركزا على مشكلات داخلية وحتى محلية، وتكون لهذه المشكلات الأولوية. ألا نتعلم من هذا أن أولوياتنا يجب أن يكون المواطن، وأن قوة السياسة الداخلية أكبر دعامة لسياسة خارجية ناجحة. لمزيد من مقالات د.بهجت قرني