كانت تربطني علاقات ود ومحبة بنخبة من كبار شعرائنا في زمن جيل الرواد الذين أثروا الحياة الفنية بإبداعاتهم الغنائية التي عاشت وتعيش في وجدان الجماهير المصرية والعربية حتي الان بما تتميز به من الكلمة الراقية الحلوة والفكرة الجيدة البناءة والمعني الجميل وكانوا بحق مدرسة حقيقية لكل الشعراء الذين جاءوا من بعدهم ليتعلموا منهم فن الغناء الاصيل، واجمع النقاد علي ان الاغنية المصرية والعربية شهدت أزهي فترات ازدهارها في عهدهم وتسابقوا فيما بينهم دون اتفاق مكتوب علي ان يتحملوا معاً مسئولية الاغنية التي يبقي علي مر الزمن وترددها الاجيال جيلاً بعد جيل حتي ولو كانت إبداعاتهم الغنائية مكتوبة لمناسبة وطنية أو اجتماعية أو سياسية معينة لكنها كتبت لتصلح لكل المناسبات اللاحقة حتي ولو اختلف الزمان ما دامت المبادئ واحدة وطموحات وأماني الشعوب متوحدة . واذكر من هؤلاء الرواد علي سبيل المثال الشعراء الكبار حسين السيد ومأمون الشناوي وصلاح جاهين ومرسي جميل عزيز وعبد الفتاح مصطفي واسماعيل الحبروك وعبد الوهاب محمد وغيرهم من الشعراء الذين كانت لهم بصماتهم الواضحة في كتابة الاغنية التي تخاطب المشاعر بكل الصدق والاحساس تسمعها وكأنك أمام لوحة فنية أبدعها رسام عبقري أو فنان تشكيلي أبرز فيها كل الجماليات المطلوبة فتشاهدها بأذنيك ويرتاح لها قلبك أما مأمون الشناوي فقد كانت له مكانة خاصة في قلبي ليس لانه شاعر كبير فقط ولكن لكونه محباً للشعراء الواعدين فيأخذ بأيديهم الي عالم الشهرة ويرشح كلماتهم لمشاهير المطربين والمطربات مفضلاً إياهم علي نفسه وهو ما حدث معي ومع بعض شعراء جيلي وكنت أحرص علي متابعة كل رائعة من روائعه الغنائية وأفرح لنجاحه وأتألم في نفس الوقت عندما يتعثر له عمل فني لسبب خارج عن إرادته ، وهو ما حدث له مع سيدة الغناء العربي أم كلثوم .. والحكاية كان أول من يعرفها صديقه الوفي الاستاذ محمود لطفي المحامي مستشار جمعية المؤلفين والملحنين (رحمه الله) وكاتم أسراره ، ولا يمر اسبوع دون ان يلتقي به بمكتبه في الجمعية مرتين أو ثلاثا ويعرض عليه بعض ما يصادفه من مشكلات تتعلق بأبداعاته الشعرية ويتفقان معاً علي حلها والحكاية ان مأمون كان قد انتهي من كتابة أغنية عن الربيع وقرأها لصديقه فأعجبته خصوصاً مطلعها الذي يقول «ادي الربيع عاد من تاني .. والبدر هلت أنواره .. وفين حبيبي اللي رماني .. من جنة الحب وناره .. «الي آخر الكلام الذي انبهر به لطفي وطلب منه الاتصال بأم كلثوم لكونها أفضل من تغني هذه الكلمات خاصة وأنها كثيراً ما كانت تتحدث عن مأمون كشاعر كبير ويهمها أن تتغني بكلماته واقتنع مأمون بهذه الفكرة واتصل بأم كلثوم ورحبت به وحددت له موعدا لمقابلتها في فيلتها الشهيرة بشارع ابو الفدا المطل علي نيل الزمالك ، وذهب مأمون في نفس الموعد وبعد انتظارها في الصالون بعض الوقت دخلت مرحبة به وسألته عن الجديد لديه في عالم الأغنية فأخبرها بأن آخر ما كتبه أغنية عن الربيع فأعجبتها الفكرة وطلبت منه قراءة النص فآرتاحت للمذهب الذي يقول «آدي الربيع عاد من تاني .. والبدر هلت أنواره ..» فأعجبها وطلبت منه الانتقال الي الكوبليه الاول « كان النسيم غنوة .. النيل يغنيها .. وميته الحلوة .. تفضل تعيد فيها .. وموجه الهادي كان عوده .. ونول البدر أوتاره .. يلاغي الورد وخدوده ..» الي ان وصل المقطع الذي لم تسترح له أم كلثوم وتوقفت وبدت وكأنها غير راضية عنه « من يوم مافتني وراح .. شدو البلابل نواح .. والورد لون الجراح..» وطلبت منه تعديله ليتناسب مع بهجة الربيع وفرحة الناس بقدومه وأن كلمتي النواح والجراح غير مناسبة في هذا العمل الجميل فسكت مأمون ولم يحاول مناقشتها في المعني الذي يقصده أو يدخل معها في جدل أو يؤكد لها ان هذا هو احساسه كشاعر جسده في الاغنية وكان يعلم أن أم كلثوم لا تحب أن يجادلها أحد في معني غير مقتنعة به وكثيراً ما كانت تقول : «أنا التي سأغني أمام الجمهور وأتحمل مسئولية ما أغنيه وليس المؤلف» وأنتهي لقاؤه مع أم كلثوم وغادر الفيلا وهو في حالة نفسية غير مريحة مقتنعاً بأن ما كتبه هو الافضل ولا يوافق علي تغييره لأن هذا هو إحساسه الذي عبر عنه في هذه الاغنية ، ووجد نفسه دون أن يشعر متجهاً الي كبري الجلاء ثم شارع التحرير إلي أن وصل الي عمارة فريد الاطرش علي نيل الجيزة قاطعاً هذه المسافة كلها سيراً علي الأقدام وهو في حالة نفسية غير طبيعية خاصة أن أم كلثوم لم تحدد له موعداً آخر لمقابلتها بعد إتمام التعديل المطلوب .. وكانت تربطه علاقة وثيقة بالأستاذ فؤاد الأطرش شقيق فريد ومدير أعماله وكثيراً ما كان يزوره في أي وقت دون استئذان لحميمية العلاقة التي تربطهما معاً ويدق جرس الباب ليفتح الخادم ويسأله : هل الأستاذ فؤاد موجود؟ فيسمعه ويرحب به أنت فين يا مأمون ؟ لك يومين ما ظهرتش في حاجة ولا إيه ؟ ويجلسان معاً وبعد تناول الشاي تلعب الصدفة دورها الجميل ليدخل فريد إلي الصالون ويسلم علي مأمون مرحباً به ويسأله : مفيش مرة تيجي يا أستاذ مأمون تزور فؤاد ومعاك كلام حلو؟ أنت شاعر كبير وكل المطربين والمطربات يتمنوا يغنوا كلامك، ويسكت مأمون ويكتم ما حدث بينه وبين أم كلثوم وكأن شيئاً لم يكن ويجيب بذكاء علي السؤال: شرف لي يا أستاذ فريد أن تتغني بكلماتي .. أنا كاتب كلام حلو بس لازم أراجعه ، فرد فريد عليه «سمعني اللي كتبته» فأخرج من جيبه النص وقرأ له المذهب الذي انبهر به فريد وإذا به يدخل حجرته ويعود ممسكاً بالعود ويدندن جملة «آدي الربيع عاد من تاني» ويسترسل منفعلاً بالكلام دون توقف حتي انتهي من تلحين المذهب بأكمله وكانت الساعة قد وصلت إلي منتصف الليل ليودع مأمون فريد وشقيقه وهو في قمة سعادته باللحن ويطلب منه فريد العودة غداً لسماع باقي الأغنية بعد اكتمال اللحن وفي الصباح يستيقظ مأمون مبكراً ليلتقي بصديقه محمود لطفي ويروي له كل ما حدث ويطلب منه لطفي عدم التحدث مع أي أحد حول هذا الموضوع إلي أن ينتهي فريد من اللحن بالكامل وهو ما تم بالفعل . ويطلب فريد من صديقه عازف الكمان الاول أحمد الحفناوي الاتصال ببعض الموسيقيين الكبار لمصاحبة فريد أثناء بروفات اللحن في منزله حتي لا يعرف أحد من الصحفيين شيئاً عن هذا العمل الكبير الذي سيشدو به فريد الاطرش بعد شهرين بمناسبة الاحتفال بعيد الربيع. ويندمج فريد أكثر مع الكلمات أثناء البروفات في المقطع الذي أثار الحفناوي ومجموعة الموسيقيين ويقول «يا ليل .. يا بدر .. يانسمة .. يا زهر .. يا أغصان .. هاتوا من الحبيب كلمة .. تواسي العاشق الحيران .. أخد ورد الهوا مني .. وفات لي شوكه يؤلمني ..» ليصل اللحن الي قمته وتبدأ البروفات النهائية لتسجيل اللحن كاملاً ويغنيه فريد الأطرش مع الفرقة الماسية بقيادة الموسيقار أحمد فؤاد حسن ويحقق نجاحاً ساحقاً في الحفل الذي أذيع علي الهواء لتصبح أغنية « أدي الربيع عاد من تاني «هي أغنية كل عام التي لا يحلو الربيع دون أن يستمتع بها الجمهور كل عام، ويفاجأ مأمون الشناوي مساء اليوم الثاني للإحتفال بأن أول أتصال تليفوني لتهنئته بنجاح الأغنية كان من سيدة الغناء أم كلثوم فشكر لها هذه المفاجأة دون أن تفاتحه بأي شئ حول ما حدث بينهما مؤكدة له أنه سيكون أول شاعر كبير يسعدها أن تتغني بكلماته في الموسم القادم . وقد تسبب نجاح الأغنية في اشتعال المنافسة بين عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش لإحياء حفل الربيع كل عام وأستعدادات كل منهما لبرنامج الحفل والأغنيات الجديدة التي سيتغني بها كل منهما في هذه المناسبة وتبلغ المنافسة ذروتها عندما تم الاتفاق علي إحياء حفليهما في إحدي السنوات في ليلة واحدة وأن تنقل الإذاعة الحفلين علي الهواء (عبد الحليم) من سينما ريفولي و(فريد) من سينما قصر النيل بمشاركة كبار الموسيقيين والعازفين مناصفة بين الفرقتين المصاحبتين لفريد وعبدالحليم وقد تم بالفعل نقل حفل فريد علي الهواء من التاسعة مساء واستمر في تقديم روائعه الغنائية إلي ما بعد منتصف الليل وسط انبهار المستمعين ، في الوقت الذي ملأ فيه عبد الحليم هذه المساحة في حفله ببعض الأصوات الشابة (وهو ذكاء منه) وما أن أسدل الستار علي حفل فريد حتي أسرع الموسيقيون بآلاتهم الموسيقية وبأزيائهم الرسمية سيراً علي الأقدام – وهي مسافة لا تتجاوز خمس دقائق – إلي سينما ريفولي والأنضمام الي حفل عبد الحليم لتظهر الفرقة الماسية متكاملة (30 عازفا) بالإضافة الي الكورال لينفرج الستار علي الحفل ليظهر عبد الحليم وهو يقدم كبار الموسيقيين بأسمائهم ثم يبدأ الحفل بمقطوعة موسيقية من تأليف أحمد فؤاد حسن ويشدو عبد الحليم بإحدي روائع بليغ حمدي (أمل مصر في الموسيقي) كما أطلق عليه عبد الحليم هذا اللقب – مع كلمات الشاعر الرقيق محمد حمزة وسط تصفيق الجماهير الذي تقرر أكثر من مرة في كل مقطع من مقاطع الأغنية لينتهي الحفل بعد الثالثة والنصف صباحاً ويعيش المستمعون ليلة من أجمل ليالي العمر (في عيد الربيع) مع النجمين الكبيرين رحمهما الله .