في إطار العروض الخاصة بالدورة ال36 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي, عرض الفيلم السوري مياه الفضة للمخرج أسامة محمد, والذي يعد واحدا من أهم المخرجين السوريين.. ومن منفاه الإجباري باريس صنع أسامة فيلمه الشفيف, أقصد شديد الرقة رغم قسوة المأساة التي يرصدها, وهو ما يجعلنا نشعر تجاه أنفسنا بأننا أقزام, كما يكشف لنا بوضوح ضآلة حجمنا الذي يفضحه صمتنا, وتواطئنا مع العالم الذي يكتفي بدور المشاهد لما يرتكب في سوريا من مجازر ومذابح. أسامة الذي قرر صناعة فيلمه بتحريض من وئام سيماف بدرخان تلك الفتاة الكردية التي رفضت أن تترك حمص المنكوبة, حيث ضاع الأهل, وقتل من قتل, وتشرد من تشرد.. سيماف التي كانت تبحث عن سبب لاستمرار هذه الحياة, جاءها البريق في تلك الرسائل المتبادلة بينها وبين أسامة محمد, ذلك المقل في أعماله, والذي في ظني يرفض أن يصنع فيلما لمجرد أن يضيف رقما جديدا إلي قائمة أفلامه, بل دائما ما يكون رهانه علي اختلاف التجربة, والصورة المغايرة التي يقدمها, ليس ذلك فقط بل وأيضا جماليات تلك الصورة وتفاصيلها, حيث يناقش من خلالها العديد من الإشكاليات. أسامة في فيلمه مياه الفضة الذي ذيله بتوقيع فيلم من إخراج مئات السوريين والسورياتووئام سيماف وأنا, قدم عملا شديد العمق.. كل زواية فيه مليئة بالجماليات, رغم قسوة الصورة, وعنف, الأحداث.. الفيلم يحمل بوحا من مخرج يشعر بالذنب ويوصم نفسه بقلة الشجاعة والجبن, لأنه لم يعد إلي وطنه عندما غادر في رحلة عمل إلي فرنسا ولم يتمكن من العودة, لأن حياته في خطر حسبما قيل له. سوريا التي تموت تحت وطأة الظلم, والتي صارت مرتعا للعابثين, كيف استطاع أن يحولها أسامة بكل ما تحتويه من تلك القسوة وذلك الألم إلي صورة قوية مؤثرة, من خلال مونتاج يعكس حجم الجرم, وبشاعة القسوة, والعنف اللذين يسيطران علي كل تفاصيل الحياة؟, أو لنقل أنها عكست ذلك الموت البطئ. الفيلم يدور حول حكاية وقضية شعب ثار من أجل حقيقته, فمشاهد الفيلم مكونة من مجهولين سوريين, غير موجودين علي خارطة السينما, أصبحت صورهم تتدوال في عمل فني, لذلك فان تصوير المخرجةوئام سيماف كان يمثل الخيط الحقيقي للحياة, فدوران الكاميرا في بعض اللحظات كان يعبر عن الضمان الوحيد لاستمرار الحياة, كما يكتب مقاومة جمالية للحظات القسوة والعنف, والبعد الإنساني لسيماف يجري في اللقطات التي صورتها, فهي حاضرة بزوايا اللقطات التي تأخذها, تقاوم رائحة الموت التي تحاصرها في كل زاوية حتي في الخزانة, التي تختبئ بها ليلا من شدة الخوف. وأعتقد أنه ليس هناك أصعب من عمل فيلم تسجيلي مبني علي لقطات لم يأخذها المخرج بنفسه, لذلك فعنصر المونتاج من أهم عناصر الفيلم,حيث تم تركيب لقطات لفيديوهات وصور تتجاوز ال1001 فيديو حسبما يذكر المخرج في تعليقه الصوتي, معظمها لمشاهد صادمة وبالغة التأثير لما تحمله منعنف وبشاعة, تتمثل في جرائم ارتكبت ضد المتظاهرين, من قبل الجيش السوري, وأضفي التعليق للنص الشاعري الذي صاغه المخرج, عمقا وبعدا انسانيا مؤلما, حيث يروي كل من أسامة وسيماف, بصوتيهما دنياه وخوفه, ويعكسان حصارهما سواء النفسي أو المكاني. كما قام المخرج, بتقسيم الفيلم الي مقاطع يتم عرضها, تحت أسماء مختلفة, ومن هذه الأسماء ثنائية البقاء والسلام, ماراثون, سبارتاكوس, النوتة الأولي, دوما مون مور, كان, وصورة ضد صور وغيرها. أما الجزء الذي قامت وئام بإخراجه, فيتكون من مشاهد صورتها بكاميرا قامت بتهريبها إلي داخل حمص, كانت تضعها في كم قميصها, تتابع من خلالها ما لحق بالمدينة من دمار شامل, ولحق بأهلها من ضحايا القصف من تشريد وأحزان, وبها أيضا صورت المدرسة التي افتتحتها لتضم باقي الأطفال, نقصد ذلك المنزل المهجور والذي كانت تجتمع فيه ببعض الأطفال لتساعدهم وتساعد نفسها علي الاحتفاظ بإنسانيتهم في ظل هذا الواقع المرير, كما تساعد الأطفال عليالتعلم والسمر. ومن العناصر اللافتة أيضا في فيلم مياه فضة الموسيقي, التي وضعتها المبدعة نعمي عمران أو لنقل أكثر دقة كل شريط الصوت بما يتضمنه من موسيقي تم تأليفها للفيلم, وأيضا مؤثرات صوتية تتداخل فيها أصوات الانفجارات والصراخ وصوت الرسائل المتبادلة علي الشات بين المخرج وسيماف, وصوت الأطفال المبهج, رغم مرارة الواقع, ومواء القطط,التي تشوهت هي الأخري بفعل الحروب, وصوت الخوف, وأقدام لاهثة تجري بسرعة البرق خوفا من القناصة أو القتل المفاجئ. كل هذا القبح, يتبدل علي الشاشة بمجرد أن يظهر عدد من الأطفال الذين جمعتهم سيماف, وهم يمرحون أمام الكاميرا, وتحديدا وجه عمر الذي لم يكمل عامه السادس علي أقصي تقدير, ولكنه حريص علي جمع الورود, ووضعها علي قبر والده الذي استشهد حديثا, عمر الذي بات يعرف أماكن القناصة في الشوارع ويجري في رحلة يومية للهرب منهم, عمر الطفل الذي يصفه عمه الذي انضم إلي الجهاديين بالكافر لأنه لم يعرف كيف يقرأ الفاتحة مثلا, لذلك تصرخ سيماف وهي تتحدث إلي أسامة, وتتساءل كيف للثورة أن تقتل أبناءها؟, كيف لها ان تأكلهم خصوصا بعد أن زاد علي العنف عنفا آخر وقسوة لا تقل بشاعة عن سابقتها؟, وهي قسوة الجهاديين, الذين باتوا يتحكمون في الإمور, ومن فاشية البعث, إلي الفاشية الدينية,42 عاما قضتها سوريا تحت حكم الفرد الذي أقنعهم بالتنازل عن حريتهم مقابل سلام يعيشون فيه, ويتربع هو علي الكرسي,42 كيلومترا هي المسافة نفسها التي مشاها السوريون من القري المحيطة بدرعا لإعلان تضامنهم معها, بعد حصارها لأن منها انطلقت شرارة الثورة السورية التي تم اغتيالها, واللعب بها لمصالح آخرين,42 عاما و42 كيلومترا.. ويالها من مفارقة. مياه الفضة وثيقة سينمائية وجمالية تؤرخ لما شهدته سوريا من أحداث, وما نعيشه نحن في أوطان لا تفعل شئ سوي أن تآكل أبناءها.