هذا الشاب الأزهري الصغير, لم يكن يتصور أن كتاباته سوف تكون مصدر صخب و جدال في مصر والعالم العربي علي مدي ما يقرب من نصف قرن. حتي بدا وكأنه يستمتع بإثارة الناس عليه. وبالرغم من ذلك, لم يكن طه حسين يوما إستفزازيا, بل كان رقيقا كل الرقة, ويتطرق إلي موضوعه برفق بالغ وتحفظ كبير, ورغم ذلك لا يلبث أن يشتعل الجدال, ويمتلئ الوطن بمؤيديه ومعارضيه.. لماذا؟ربما لأنه كان جذريا وعميقا. سجل الراصدون لحياة طه حسين بإعجاب تنوع انتاجه الفكري, فهو روائي وناقد أدبي ومؤرخ ومترجم ومصلح اجتماعي. ولا أظن أن تفسير ذلك بكونه متعدد المواهب يعد تفسيرا كافيا. ولكن يمكننا أن نقف علي السبب في تنوع إسهاماته النظرية في مجالات عدة, ربما هو نفسه لم يكن يتصور أنه سوف يتطرق إليها يوما, إذا ما رصدنا هموم الشباب كما تبدت في كتاباته الأولي. فقد فرضت عليه الظروف أن يكون صاحب رسالتين للدكتوراه, واحدة في تاريخ الأدب عن أبي العلاء, والثانية في علم الاجتماع عن إبن خلدون. وكان طه حسين في شبابه عضوا في الحلقة التي تلتف حول أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد في مبني صحيفة الجريدة ومعه هيكل والرافعي والعقاد ومنصور فهمي. وقد بدأ مقالاته الأولي في الجريدة متأثرا بأستاذه في الدعوة لاستقلال مصر عن انجلترا وتركيا علي السواء, وفي ضرورة تحديثها عن طريق تحقيق الحريات الاقتصادية والسياسية كما يقتضي المذهب الليبرالي. وفي جريدة السفور التي ظهرت في4191, بدأت ملامح الأسلوب الخاص لطه حسين ورؤيته للعالم في التشكل بصورة تجعله متميزا عن غيره من الكتاب. فهذه الجريدة الفريدة من نوعها في تاريخ الفكر العربي المعاصر, كانت تدعو لتحرير المرأة, وتنطلق من وضع المرأة المتخلف في مجتمعنا لتقرأ من خلاله كل أمراض المجتمع: التبعية والاستبداد والاستسلام للخرافة والظلم الاجتماعي. كان رئيس تحرير الجريدة, الدكتور محمد حسين هيكل, جريئا وساخرا وصداميا في مقالاته.وكان منصور فهمي في مقالاته وفي روايته ذكري عهود تربويا صبورا. أما طه حسين فقد لجأ إلي الأدب وإلي التاريخ, وتبني التلميح لا التصريح. وكتب أولي رواياته بعنوان: خطبة الشيخ, في حلقات أسبوعية. الرواية تستخدم أسلوب الرسائل, وهو أسلوب كان شائعا في أوروبا في عصر التنوير وخصوصا لدي مونتسكيو وجان جاك روسو. وهو أسلوب يسمح للراوي أن يستخدم ضمير المتكلم مع كل شخصية من شخصياته. الرسالة الأولي من فتاة تذكر لصديقتها أن هناك شيخا أزهريا شابا قد تقدم لخطبتها, والرسالة الثانية من الأب الذي يبلغ إبنته أن خطيبها مناسب ويليق بها وأن عليها أن تترك عملها كمعلمة للأطفال بعد الزواج حسب ما تقتضي قوانين الدولة. ثم رسالة من الشيخ لخطيبته مليئة بعبارات الحب والغزل ومفرطة في استخدام البديع والمجاز والسجع والإطناب. وترسل الخطيبة رسالة أخري إلي صديقتها مصحوبة برسالة خطيبها, تطلب منها رأيها فيه, وانطباعها عن شخصيته. وترد الصديقة أن خطيبها منافق, وكثرة استخدام العبارات الجزلة والألفاظ الفخمة دليل علي ضعف عاطفته. وبعد ذلك رسالة من الشيخ الخطيب إلي صديق له يعمل قاضيا شرعيا يخبره فيها بأن حماه شيخ مريض ولكن للأسف لزوجته المقبلة أخ سوف يستأثر بأغلب الميراث, ويطلب منه مساعدته في تدبير قضية حجر علي الأخ حتي يزيد نصيب زوجته من الميراث المرتقب. وهكذا تنطوي الرواية علي نقد لكثير من مظاهر الخلل الاجتماعي: الزواج الغيابي الذي يتم عن طريق اختيار الأب وليس اختيار الفتاة, قرار الحكومة بمنع البنات من الاستمرار في العمل بعد الزواج, وفي هذا اجبار لهن علي البقاء سجينات في المنازل, نقد تلاعب العلماء بالفتاوي والأحكام, وأخيرا نقد البلاغة التقليدية والدعوة إلي الأسلوب العفوي غير المصطنع لانه مرآة صادقة للمشاعر. وفي نفس الجريدة الموجهة للقراء العاديين في مصر, ينشر طه حسين بحثا تاريخيا علي حلقات عن الخنساء. تلك الشاعرة التي حفظنا قصيدتها في رثاء أخيها صخر, وأعجبنا بصلابتها حينما أستشهد أولادها الأربعة في سبيل الله في معركة واحدة, لينتهي طه حسين في بحثه بأن هذه الشخصية لا وجود لها, أو هي بالأحري شخصية أسطورية, اخترعها خيال الكتاب, وأضافت الأجيال اللاحقة عليها أخبارا لا أساس لها من التاريخ. وهكذا يقدم طه حسين في جريدة السفور البروفة الأولي لمنهج النقد التاريخي الذي طبقه بعد ذلك بصورة أكثر جذرية في كتابه الشهير في الشعر الجاهلي. والدرس الذي يريد لنا طه حسين أن نستخلصه هو أنه ينبغي لنا أن نضع كل الأخبار التي وصلت إلينا متواترة عن الرواة موضع النقد والتمحيص. وهذا طريق محفوف بالمخاطر يواجه السالكون فيه مخاطر وصعوبات تضعها السلطات الدينية والسياسية وكان طه حسين نفسه نموذجا ناصعا علي ذلك. وبعد طه حسين سار البعض في نفس الطريق وتعرضوا لمثل ما تعرض له. لكننا علي الأقل أصبحنا ندرك أن لدينا نقصا شديدا في مجال النقد التاريخي. واستمر طه حسين أستاذا جامعيا مرموقا وعميدا للأدب العربي ومؤلفا لدراسات تعد اليوم مراجع أساسية في مجالي تاريخ الأدب والنقد الأدبي. إلا أنه لفت من جديد الأنظار بكتاب من نوع غريب وهو: مستقبل الثقافة في مصر, فهو ليس إبداعا ولا دراسة تعتمد علي مراجع وإنما تقرير مقدم لإصلاح التعليم, الجديد في الكتاب هو أنه ينطلق من أساس يقوم علي فكرة أنه لا يمكن إصلاح أي شئدون أن نسأل أنفسنا أولا: إلي أين يتجه العالم الذي نعيش فيه؟ وهو سؤال رغم أنه يبدو بديهيا وشرطا أساسيا لكل إصلاح ولكننا نادرا ما نأخذه في الحسبان. كما يتضمن هذا الكتاب أطروحته الجريئة عن انتماء مصر إلي حضارة البحر المتوسط, وهو هنا يحذو حذو مفكري أوروبا الذين يعيدون صياغة ماضيهم انطلاقا من تصورهم لمستقبلهم, وكان طه حسين يري أنه لا مستقبل لمصر إلا إذا إعتمدت علي العقل وسمحت بالحرية. والذين هاجموا طه حسين بسبب هذا الكتاب لم يكن ذلك لحرصهم علي الهوية, بقدر ما كان بسبب عدائهم للعقل والحرية. وفي الأربعينيات يصدر طه حسين كتابه المهم: الفتنة الكبري. وقد كانت مرحلة الفتنة الكبري في الوعي الإسلامي المعاصر نموذجا لما يسميه هيجل الوعي الشقي, وهو الوعي الذي يريد أن يقنع نفسه بشئ يدرك أنه ليس حقيقي. هكذا كان علينا أن نري كل المتخاصمين علي حق, وأن نغفل رؤية الصراعات الطبقية والسياسية, ولكن طه حسين يبادر بأن يدرس, من خلال منظور علمي, هذه الفترة التي ظلت محاطة بسحابات كثيفة من التبجيل والتقديس تجعلنا نعمي عن الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء الظواهر التاريخية. وهاهو طه حسين يفتح لنا بابا جديدا يجعلنا ننظر إلي تاريخنا البشري ليس علي أنه تاريخ فريد في نوعه واستثنائي وإنما يخضع لكل القواعد التي تحكم تطور التاريخ البشري بوجه عام. ربما أغفلت كتابات أخري لطه حسين يراها آخرون مهمة وريادية تفتح للبحث آفاقا جديدة. ولكن كان هدفي أن أبين أن التنوع في إنتاج طه حسين الفكري لا يرجع إلي تعدد المواهب, بقدر ما يرجع إلي تعدد هموم مثقف واع برسالته من أجل تقدم وطنه وبدوره في إيقاظ وعي الأجيال الجديدة.