وزير الصحة: هيئة الإسعاف شهدت نقلة نوعية غير مسبوقة منذ 2014    الهلال الأحمر يخلي 3 مرضى من مستشفى العودة المحاصر رغم الاحتجاز.. وإطلاق النار قرب سيارات الإسعاف    نهائي كأس ألمانيا 2025.. أرمينيا بيليفيلد يصطدم بشتوتجارت في مواجهة الحلم والتاريخ    مدير تعليم القاهرة يتابع سير امتحانات النقل بإدارة بدر    نائب رئيس الوزراء: مركز الاتصالات الجديد للإسعاف هو الأكبر في الشرق الأوسط    العُمر مجرد رقم.. آمال ابنة المنيا تحوّل القصاصيص إلى كنوز في المتحف الكبير    ممكن تترشح في أي دائرة.. وزير الشؤون النيابية يكشف تفاصيل جديدة بشأن نظام الانتخابات    مستعمرون يحرقون 40 دونمًا مزروعة بالقمح فى سبسطية قرب نابلس    رئيس وزراء أوكرانيا يدعو إلى زيادة الدعم الدولي لبلاده وتشديد العقوبات على روسيا    سيميوني: أهدرنا فرصة الفوز باللقب فى أسهل موسم    مركز الساحل والصحراء يعقد مؤتمرًا عن "الإرهاب فى غرب أفريقيا".. صور    البابا تواضروس يصلي القداس الإلهي ب كنيسة «العذراء» بأرض الجولف    هيثم فاروق: أثق في يورتشيتش وبيراميدز لن يعود للدفاع في الإياب أمام صن داونز    مغامرة كأس العالم للأندية    إصابة نجم يد الزمالك بقطع في الرباط الصليبي للركبة    تباين أداء قطاعات البورصة المصرية.. قفزات في المالية والاتصالات مقابل تراجع المقاولات والموارد الأساسية    فى حضرة قباء بالمدينة المنورة.. المصريون بين عبق التاريخ ورعاية لا تغيب "فيديو"    بدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني ب8 مدارس فنية للتمريض بالإسكندرية    تأجيل محاكمة أكبر مافيا لتزوير الشهادات الجامعية    ضباط الشرطة الفرنسية يقدمون عرضًا على السجادة الحمراء ضمن ختام «كان السينمائي»    مسلم يرد من جديد على منتقديه: كفاية بقى    لقاء سويدان: الجمهور ملهوش التدخل في حياة السقا ومها الصغير    فرقة الغنايم تقدم «طواحين الهوا» على مسرح قصر الثقافة    محمد رمضان يروج ل فيلم "أسد" بصورة جديدة من الكواليس    موعد افتتاح المتحف المصري الكبير 2025.. هل يوافق إجازة رسمية؟    عضو شعبة المواد الغذائية: «كلنا واحد» تعيد التوازن للأسواق وتدعم المستهلك    رئيس الوزراء يشارك غدا بمنتدى الأعمال المصرى - الأمريكى    تأجيل محاكمة متهمي اللجان النوعية    "ملكة جمال الكون" ديو يجمع تامر حسني والشامي    ملك المونولوج.. ذكرى رحيل إسماعيل ياسين في كاريكاتير اليوم السابع    وزير البترول يتفقد المجمع الحكومي للخدمات الذكية خلال جولته بالوادى الجديد    المانجو "الأسواني" تظهر في الأسواق.. فما موعد محصول الزبدية والعويسي؟    وزير الداخلية اللبناني: الدولة لن تستكين إلا بتحرير كل جزء من أراضيها    بيرو تفتح تحقيقاً جنائياً بحق جندي إسرائيلي بعد شكوى مؤسسة هند رجب    المرصد الأورومتوسطي: إسرائيل تصعد سياسة التهجير والتجويع تمهيدًا لطرد جماعي للفلسطينيين    تسجل 44.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس في مصر: موجة شديدة الحرارة تضرب البلاد ل48 ساعة    سقوط عدد من "لصوص القاهرة" بسرقات متنوعة في قبضة الأمن | صور    النزول من الطائرة بالونش!    وزيرة التنمية المحلية تعلن انتهاء الخطة التدريبية لسقارة للعام المالي الحالي    محافظ قنا يكرم باحثة لحصولها على الدكتوراه في العلوم السياسية    سيد عطا: جاهزية جامعة حلوان الأهلية لسير الاختبارات.. صور    كونتي ضد كابيلو.. محكمة تحدد المدرب الأفضل في تاريخ الدوري الإيطالي    بمشاركة منتخب مصر.. فيفا يعلن ملاعب كأس العرب    ذا أثليتك: أموريم أبلغ جارناتشو بالبحث عن نادٍ جديد في الصيف    جرافينبيرش يتوج بجائزة أفضل لاعب شاب في الدوري الإنجليزي    النائب مصطفى سالمان: تعديلات قانون انتخابات الشيوخ خطوة لضمان عدالة التمثيل    رئيس الوزراء يفتتح المقر الرئيسي الجديد لهيئة الإسعاف    نائب وزير الصحة يبحث مع وفد منظمة الصحة العالمية واليونيسف تعزيز الحوكمة ووضع خارطة طريق مستقبلية    مباشر.. أسرة سلطان القراء الشيخ سيد سعيد تستعد لاستقبال جثمانه بالدقهلية    جامعة كفر الشيخ تسابق الزمن لإنهاء استكمال المنظومة الطبية والارتقاء بالمستشفيات الجديدة    براتب 20 ألف جنيه.. تعرف على فرص عمل للشباب في الأردن    رئيس جامعة الأزهر: القرآن الكريم مجالًا رحبًا للباحثين في التفسير    خلي بالك.. رادارات السرعة تلتقط 26 ألف مخالفة في يوم واحد    فتاوى الحج.. ما حكم استعمال المحرم للكريمات أثناء الإحرام؟    حكم طلاق الحائض عند المأذون؟.. أمين الفتوى يُجيب    الداخلية تضبط المسئول عن شركة لإلحاق العمالة بالخارج لقيامه بالنصب    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 24-5-2025 في محافظة قنا    هل يجوز الحج عن الوالد المتوفي.. دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجنزورى.. أديبا
نشر في الأهرام اليومي يوم 15 - 11 - 2014

رواها لى فى زمن العزلة القهرية من بعد تركه مهام رئاسة الوزراء فى أكتوبر 1999 ليمكث أكثر من عشر سنوات صامتاً لا يُدلى بحديث ولا يظهر فى لقاء،
حتى قيل إنه محدد إقامته وممنوع من الكلام، وعندما قام ثلاثة من رجال الأعمال المهندس محمد نصير والدكتور أحمد بهجت والمهندس نجيب ساويرس بالاطمئنان عليه هاتفيا قام مبارك بشخصه بالاتصال بكل منهم فور طلبهم له طالباً من كل منهم عدم الاتصال به مرة أخرى.. «فوجئت بطوق من العزلة يفرض عليّ، وحتى تحركاتى التى كانت محصورة من البيت إلى المسجد كانت تخضع لرقابة شديدة، بل إن كثيرا من الوزراء الذين عملوا معى لم يجرأوا حتى على مجرد السؤال عنى، ومع ذلك لم أفقد اهتمامى بالشأن العام، وظللت أتابع أوضاع البلاد، خاصة الوضع الاقتصادى وتدهور الأحوال المعيشية للمواطنين، وكنت متوقعاً أن لحظة الانفجار قادمة بلاشك».. يظل الجنزورى حريصاً طوال تلك الفترة على الابتعاد عن الظهور خاصة بعدما كانت أية إطلالة له فى مكان يصاحبها تجمع المواطنين من حوله والاحتفاء به وسؤاله عن السبب الحقيقى لخروجه من الصورة.. استسلم المغضوب عليه قانعاً بالدائرة الضيقة من الخلصاء الشجعان المجتمعين على مائدة إفطار الفول والطعمية كل أسبوع فى مكتبه الخاص بالقرب من شيراتون المطار الذى صممته إحدى كريماته الثلاث سوزان ومنى المهندستان وماجدة خريجة سياسة واقتصاد والتى لم تغفل عن وضع مميز لماكينة المشى الكهربائية تحريضاً للوالد على مزاولة الرياضة يومياً حتى ولو كان داخل الجدران تجديداً للنشاط..
فى ضيافة كوب الليمون المتقشف بعيدًا عن مائدة الطعمية جلست إلى المسئول التليد عندما لم يكن سطح زجاج مكتبه يعتليه دوسيهات المشروعات والقرارات والأرقام والدراسات ومحاضر الاجتماعات وإنما بضع صفحات تحوى سطورًا مبعثرة لمشروع مذكراته الخاصة المتآرجحة ما بين النشر والكتمان والتى صدرت فيما بعد فى كتابين منفصلين «طريقى» و«مصر والتنمية».. جلست إلى الراوى لإحدى قصص الطفولة فى بلدة جروان بالمنوفية التى تنهض أحداثها على شاشة الذكريات صابحة وعفيّة تروى حكاية بطل قريتهم «ابن صبيحة»، وكأنه كان يتنبأ بقيام ثورة 25 يناير بعدها بشهور معدودات، فالأجواء كانت من حولنا حُبلى بالغضب المكبوت، رافضة لتفشى الفساد، مستنفرة من إشاعات التوريث، ناقدة بلا طائل عُلياء طبقة أكلت وحدها خير البلاد، وذهبت تلعب الإسكواش وتدحرج الكرة على أرض الجولف ظناً منها أنها قد أمنت شر الإخوان بمنحهم ثمانين مقعداً فى البرلمان... روى لى الجنزورى زمان حكاية ابن حفيظة فاستأذنته أخيرًا فى النشر فأذن لى صاحب لقب وزير الفقراء:
«صغيرًا بين دروب القرية لم يكن يشد انتباهى أو يمثل فى ناظرى مركزًا للجذب المغناطيسى أكثر من ابن الخالة حفيظة.. الجدع الأسمر فارع الطول واسع الصدر الذى لم تقع عينى عليه مرتدياً جلبابه إلا فيما ندر، حيث المساحات العارية البادية من بدنه من خلال الصديرى الريفى المقلم بمثابة نوافذ مفتوحة على عضلات ومجانص تكشف سمات الفتوة وعنفوان الإقدام وشرخ الشباب وأوج الخشونة والرجولة.. ولا أذكر أنى رأيته لا فى الغيط أو على تراب الجسر بالمركوب أو البُلغة، وكان الشق فى قدميه المفلطحتين يكاد يبلع المسمار فلا يبان له رأس، يمشى لاصقاً القدم بالتربة كأنه شجرة بلوط راسخة، والأصابع بمثابة الجذور السارحة فى أديم الأرض.. مشيته أتابعها مقلدًا فى الخفاء، كأنه الفتى مهران، أو ابن شدّاد عنترة فاتحاً بصدره بوابة النصر.. المشية العنترية المعجبانية التى يميل فيها للانضمام إلى أى جمع من الرجال يلقاه عند إطلالته فينهض جميع أفراده قياماً، ومجرد تواجده يعيد تشكيل الكيان المبعثر إلى حلقة تدور من حوله لتعلو القهقهات، ويضمه واحد إلى صدره، وآخر يضرب معه كفاً بكف لالتقاء وجهة النظر فى مفهوم دعابة، ويشده الواثق فى رأيه جانباً ليستقى منه الخلاصة لحل مشكلته العويصة.. وكان فى حضور بديهته تجويدًا لهزار القفشات، والقافية تحبك معه بتعليق لا يجانبه الذكاء، وأبدًا لا يقاطع سيل السرد لكنه يقطع بالرأى السديد.. و..ينسحب بسلاسة ادعاء الانشغال ليلاحق صبيَّة يلمحها عن بُعد بعبارة غزل أو شطر موّال، فتزيد من سرعة خطواتها حتى تكاد من ارتباك الخجل أن تنكفئ على وجهها.. حتى العجوز لم تكن تفلت من مداعباته الجريئة فتصرخ فيه زاجرة بضحكة لعوب تشوبها بحّة استجابة دلال طوتها السنوات العجاف.. وكانت البهائم داخل حظائرها تموج فى مزاودها ويعلو خوارها بمجرد استشعار وجوده داخل الإطار، وتهبط إليه العنزة من فوق الأسطح ترمح بمأمأة سرسعة الاستقبال كأنها زوجة ترحب بذيول ضحكاتها لمقدم الزوج الغائب العائد من السفر، وقنعِت وقتها بما لا يقبل الشك بأن هناك شفرة سرية بين الجدع وبقية مخلوقات الكون.. البقرة تقف ساكنة صابرة فوق ثلاثة سيقان حتى يُخرج ابن حفيظة من حافرها شوكة تدميها، والقطط والدجاج وسرب الإوز وحمام البرج والغربان والدبان والهاموش وثعابين الشقوق وحتى فئران الغيط وسحالى السواقى تستقبله وتودعه أينما حلّ وغادر بزفة نقيق وزقزقة وصرير وصوصوة ونونوة، ويزيد طنين النحل، وترفع الحمارة أنفها للأعالى لتشرخ الأجواء بأنكر الأصوات، وتعلى المُهرة من معدل صهيلها فى مروره كأنها زغرودة فى ليلة دخلته، وكانت الكلاب عارفاه لا تهش ولا تنش ولا تنبح ببنت شفه ساعة ما يعتلى جدار أو يقفز فجأة من فوق سطح القطار، وتميل شجرة البرتقال عليه بهبّة نسيم مفاجئة لتتدنى الفروع إلى صدره لتطولها يداه فيقطف الثمار المنتقاة يلوكها بأشداقه العريضة ويلقى بالبذور لتحتضنها الأرض المنجبة.. وكان ابن حفيظة ملجئاً لفض الخناقة، وعونا فى تحميل المحصول، ونجدة لمن على وشك الغرق وسط الدوامات، ومسارعاً لنحر البهيمة قبل نفوقها، وداية للجاموسة العشار، ورهواناً فى الصعود لجلب سباطة تيجان النخيل لتجنى الثمار قبل سقوطها رطباً جنيا.. وكان خبيرًا فى حفر المساقى وتلييس سدود الترع وتغيير قلب الطلمبة، وسن عجلات النورج، وتنفر عضلات ساعده الغليظة فتطرح شبكة عروق بارزة كالحبال عندما يمسك بالقدوم يضرب المسمار ضربة واحدة لا ميل فيها أو عوج تصيب بطن اللوح أو كبد الحائط فى الصميم، وسهرته وحده لخيط الفجر فى حُلكة القرافة فى انتظار رؤية العفريت.. ابن حفيظة العترة من يُوقف دوران الساقية وحده ضاحكاً فتردد القواديف الجوفاء رعدات ضحكته فى سباقات القوة، وكل يوم والتانى يروح للبر التانى يسهر هناك فلابد عندهم سامر أو سبوع أو دقة طهور أو دفوف شوار للعروس.. وما أظنه قد بكى أبدا أمام أحد، وخلصت إلى أنه عندما يحزن أو ينكسر خاطره لا ينخرط فى البكاء أو تسيل دموعه كبقية الخلائق كى لا يرى لحظة ضعفه كائناً ما كان.. ذلك الحزن الذى يتحجر دموعاً فى العيون والحلق كأنه يؤثر التوقف فى المآقى للنظر من فوق شموخ الكبرياء.
ومن معالم شهرة ابن حفيظة فى بلدنا التى التصقت به أنه أفضل من يطرح فحل الجاموس أمام النعش ليجرى فى عنقه السكين فيتدفق شلال الدم فوق الرمال الحارة فدوا للميت, ويقوم دوغرى يتخطاها يلفع النعش بساعديه الصلبتين مهرولا به بمساعدة أذرع زى قلتها حتى المقابر, ليزيح الميتين القدامى يلم عظامهم يرحلها بجوار الحائط ويفرش رمالا جديدة ناعمة مخلوطة بالحناء والزعفران استعدادا لرقدة أبدية لميت القرية الجديد بعدما يمزق عنه لفائف الكفن حتى لا يسرقه النجس حرامى الترب، ويبسط كفيه يمر بهما على وجهه بابتهال.. وحدوووه.. ولا إله إلا الله.. كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.. بعدها يهيل التراب على الفتحة ويرشها بالماء، ولا ينسى رى الصبار المجاور من أجل عيون المراحيم فى مثواهم الأخير، ودعاء لنسمة باردة ترد لهم الروح فى عز نقحة الحر.. وكان ابن حفيظة أسرع الجدعان فى السفر للمركز والعودة بصحبة طبيب الوحدة إذا ما وقعت الواقعة ولم يعد فى قدرة من نزلت عليه النقطة صلب طوله لمشقة سفر فوق الركوبة للاسبتالية.. وأينما تمشى يأتيك عنه الاستفسار وإلحاح السؤال فى الحوارى المتشابهة، وبين النسوان المتشابهة، والعيال المتشابهة رغم اختلاف السِحن خلف سواتر التراب التى توحد الشبه بين الجميع.. يسألونك إذا ما كنت قد لمحت ابن حفيظة فى سكتك، وترد بالنفى أو الإيجاب فلا ينتظر السائل المندفع فى سكته إجابتك عن ابن حفيظة، الذى قد يلقونه بعدها يأخذ واجب العزاء وكأنه الابن البار من صلب أى مرحوم.. الذى يدخل بصدره فى النار لإنقاذ وليدًا نسيته أمه الهاربة بجلدها من السعير.. الذى يدخل ذراعه بطولها فى فوهة الفرن القايدة ليجلب للصغير الباكى رغيفاً طازجاً يسد به رمقه.. يعنى.. كان ابن حفيظة عنده الأمان.. يعنى كان جبل الصبر وقوة الاحتمال.. يعنى سيد الرجال.. يعنى كان ترتيبه الألفة فى النخوة والشهامة والمجدعة، وبدونه كانت المساعدة تبدو وكأنها السخرة، والمشاركة فى حل المشكلة دس أنف فى شئون الغير، والغزل قلة أدب وليس تسبيحاً لقدرة الخالق فيما خلق.. ولكانت رحابة الأفق فى العيون تصبح بدونه خُرم إبرة، والمسئولية تبقى قيدا،ً والسماء الصافية مرتعاً للغيوم والعواصف، والنجوم الثريا ترمق الأرض شذرا، والقمر مختنقاً، والناس أطيافاً، والشجر أسنة رماح، والبحر غداّر، والليل ما له نهار، وهديل الحمام نداء للغواية، والصبر حيّلة العاجز، والعيشة مرار.. يعنى كان ابن حفيظة هو الحل.. هو المفتاح والباب والشباك وضى القناديل ونور الشمس والفاتحة والخاتمة وفك الخط وحجاب المحبة وخمسة وخميسة فى وش العدو، وكان لمّا يمد كفه بالسلام تحتضن الأيدى الشاكية والباكية والثائرة والمرتعشة والخاملة والخشنة كما لو كانت منبته حراشيف..
قالت أمه إن ابنها كان غير كل العيال.. كان نادر البكاء, ينام على ظهره وهو ابن شهور محملقاً فى السقف، وأنها عندما منعت ثديها عنه لمرة واحدة إثر حمى أصابتها رفض العودة نهائياً للرضاعة كارهاً لبنها وزمّ فمه يغلقه بالضبّة والمفتاح، وأنه وهو فى سن الثالثة قعد يخرم العجين يشكله حبات، لأن جده نهره عن اللعب بمسبحته حتى لا يفرطها، ومن عزّة نفسه وكرامته الناقحة عليه إن راسه وألف سيف لابد يقف فى الصف قبل ابن حضرة العمدة، لأنه جاء قبل منه والدور عليه.. وكان وهو سبع سنين يسمّع سورة البقرة الطويلة فى نفس واحد ويعيدها كما المصحف والمقرئ الصييت.. وكان حب ابن حفيظة للأهل والخلاّن وكافة الخلق زكايب.. يقف يسند ظهره للحيط يفكر فى جبروت العمدة وكيف يغدو جرساً ورعدًا ليوقظ الأهالى الغلابة المسالمين يُعرفهم بأنهم مظاليم لأجل يسيحوا فى دروب وشعاب القرية يلعنوا الظلم والظالمين..
كان هذا الانبهار بابن حفيظة لم يكن يوازى قدر إعجابى الشخصى به لأنى لم أجده يوماً ذليلا للعمدة المستور بالفدادين غير ماكينة الطحين وجنينة المانجة وأرض الوسية التى اشتراها بتراب الفلوس مزروعة فاكهة طالبة الأكال.. من يرتكب الآثام حتى وإن كان يزنى بعينه لا أكثر، ويغتاب الكل فى كلامه حتى ولو كان من يبغضه فحسب، ويأكل فى الخفاء حق من يستحق.. وصنف العمدة فى ناحيتنا كالجراد.. يأخذ شكل الأرض التى يولد فيها، فالأرض الخضراء تخرج الجراد الأخضر كفرس النبى، والأرض القحلاء تخرج الجراد الأغبر، وعمدتنا الأغبر كان بين البينين، جرادة ظهرها أخضر بحكم مساحة الأرض الخضراء، وبطنها زرقاء بفعل كدمات الضمير الذى ابتلعه ليلطم الأعماق فأصيب بسوء هضم الحقوق، حقوق الفلاحين التى سلبها عنوة وحطها فى كرشه.. ويوم وفاة أم حضرة العمدة لبس ابن حفيظة جلبابه وقبع على قرافيصه فى طرف الشادر يستمع للمقرئ، وقام مشى ساعة الختام من قبل ما تخرج للمعزين صوانى هبر العجل والفتّة.. ويوم ما أرسل العمدة مع شيخ الخفر لأمه قمع سكر فى سبوع مولود ارتجاه من السماء من زوجته الجديدة أعاد القمع مع المرسال داعياً للمولود بطول العمر مقبلا كفه ظاهراً وباطنا متمتما: مستورة والحمد لله.. ولأجل الستر قام بتشييد خص على رأس الغيط من جذوع النخل غطاه بالجريد والسعف وقوالح الذرة والقش، وقعد أياماً يكسو الجدار بالطين المعجون بالتبن، وأمام النصبة زرع دكة خشب ومقعدين جريد وترابيزة صاج ابتاعها من سوق التلات، وفوق رف البراد جلب البضاعة: بواكى شاى ومعسل وحتتين صابون زفر وبالريحة، وفحم وجاز وزيت مكن وقاروصتين كبريت هلب ومباسم شيشة وورق بفرة ومسامير قباقيبى وألواح غراء لزوم نجار السواقى والأبواب وسم فئران ولبان دكر وششم يوسع العين وكرملة وحلبة حصى وصمغ ودوم وبخور..
العمدة ركوبته بغلة مرتفعة بسرج قطيفة كان فى الأصل سجادة صلاة بفتلة حرير لميع، يطلع على ظهرها فوق كفى شيخ الخفر ليمتطى عرش مكانته وسطوته، يتهادى فى دروب البلد وفوق أديم الجسر، وما من أحد فى الناحية أو على حدود الزمام يلمح مقدمه ولو من بعيد، أو يمر به، أو يلقى عليه مدلول السلام بتطويح راسه للوراء، أو بضربة عصا زائدة عن رتم القيادة فوق طرف العباءة إلا ويتسمر مكانه، أو ينزل من فوق حمارته ليُحيى حضرة العمدة ويزيد له فى الدعاء بطولة العمر والنصر على كل من يعاديه.. ويلف حضرة العمدة اللجام يحود به للبر الثانى هناك عند المزلقان فى طريق العودة إلى أن هدَّأت البغلة من خطواتها بحكم شد اللجام للخلف من الناحيتين عند الاقتراب من خُص ابن حفيظة، حيث فزّ الرجال قياماً تمجيدًا وتعظيماً لقائد البغلة.. إلا رجلنا.. ساعتها.. لحظتها.. تبادل الجميع النظرات المشوبة بالحذر والخوف يشاهدون العرض القادم فى صمت كأن على رءوسهم الطير، وقد زَاَمَ العمدة مُطبقاً فمه فانكمش جلد وجهه رغم غلظته لتوازى أطراف شاربه قمم حاجبيه علامة الامتعاض الكبرى ليهتف زاعقاً: (جرى إيه يا ابن حفيظة ما تقوم تفز تتنطر تقف على حيلك لو كان من الأصل حيلتك).. فى ثانية واحدة طق فى عيون الجدع شرار النار فغامت معه أبعاد المنظر ومادت لتتراقص فى عينيه هضبة البغلة وراكبها خاصة بعدما ناداه المفترى بابن حفيظة تهويناً لأمره رغم أنه الاسم المتداول بين الجميع، فأتى رده فى عجالة ساخرة: (أقوم لمّا تنزل هنا عندى الأول).. و..يا داهية دُقى.. نهارنا مش فايت.. رقابنا أصبحت فوق زمبلك رايح جاى ما بين الاثنين.. العمدة وابن حفيظة.. وكان رد فعل العمدة أن رفع يده مزمعاً هبوطها على وجه ابن حفيظة من تجاوز الحدود ووقع فى المحظور، إلا أن الأخير قبل تلقيه عقابه كان قد سارع قافزاً فأطبق على اليد المشرعة لمناولة خد العمدة من الناحية الأخرى صفعة مدوية أوقعته أرضا ومن فوقة السرج القطيفة.. ولم أمكث لرؤية تفاصيل جديدة، فقد حملتنى سيقان الريح قافزة فوق الجسر، لأجوب حوارى القرية أدور فيها وأصعد كوم السباخ، وأدخل وأخرج من الأبواب وأنط من الشبابيك، وأصرخ فى الجهات الأربع، واطلع سلم المئذنة وأهلل وسط العيال أذيع الخبر.. ابن حفيظة الهُمام ناول العمدة قلم بكفه الشمال رن فوق صدغه اليمين تقولشى طلقة فرفر... وقال له لو كنت عمدة بحق وحقيقى انزل لى هنا عندى..
فى يوم السوق كانت الفعلة تُحكى بأدق خصوصها وتفاصيلها فيعقبها تأييد كثير أو استنكار كثير. البعض قال ابن حفيظة ولد ماجابتوش ولاّدة، وغيره قال عيب ونقص تربية واللى مالوش كبير يشترى له كبير.. لكن الغالبية ضحكت فى سرها ودارت ضحكتها فى كمها، وتشفت فى العمدة وهمست لبعضها بأنه خلاص لبس الطرحة وأصبح عمدتنا عيرة وعبرة وخيال مآتة بلا حول ولا قوة.. وزار القوم بعضهم بعضا فى طلعة الشمس وبعد آذان العصر وصلاة العشاء، وانعقدت مجالس وانفضت دوائر ودار الشاى الاسود مرات ومرات، وتجمعت سحب أدخنة الشيشة والتنباق فوق الرءوس، وأخرج الرجال المعروقين علب المعسل، والتف الدخان الفرط بورق البفرة، ودارت المشاريب لتحتسى برشفات صاخبة.. يتحدون حول أى شىء، ولكنهم ينقسمون على من يقع عليه الاختيار، ويرشحون العمدة الجديد بدلا من المضروب خاصة وأن منصب العمودية فى بلدنا لا يورث زى القراريط أباً عن جد.. وأظل مندساً بين المساطب استمع لوجهتى النظر المؤيدة والمعارضة.. بين من يقول إن الإهانة وجرح الكرامة جريمة لا تغتفر، وإن فيه فرق ما بين رمز محترم ورمز جبّار، وإن المحترم يبنى والجبار يذِل.. وإن فى القرآن الكريم عندما رأى النبى إبراهيم القوم يسجدون للأصنام قال لهم «اسألوهم إن كانوا ينطقون».. وأن الشيخ عبدالرحمن الكواكبى قال فى كتابه «طبائع الاستبداد» إن الاستبداد والاستعلاء يعلمان الناس الانحطاط، أى أنهما يدمران أخلاق الناس، وأن الاحتواء والتواضع يقربان الناس من حكامهم..
العمدة الذى دخل بيته وأغلق الباب وأنزل السقاطة زهق بعد فترة من الحبسة خرج للمسطبة بعد أن أحكم من وضع الكوفية الصوف ملتفة حول رأسه، وجلس محملقاً فى نقطة بعيدة هواء سارحا لبعيد يوغل فى الزمان والمكان، يشعر بأنه قد غدا واجهة زجاجية يتطفل عليها كل عابر محدقاً يخدش صمته، بينما يحاول ضم ضفتى نفسه ليحكم إغلاقها حتى لا يدس الناس عيونهم وأنوفهم داخله.. هذا بينما أصابت سيقان الفلاحين أثناء مرورها بالمشهد المتقوقع نوع من الحمية تجعلها تخبط صواميل الركبتين ببطن الحمار الحصاوى ليتأرجح المركوب بحرية حول مشط القدم!!»..
ويعود الدكتور كمال الجنزورى من سنوات الظل والعزلة والحنين وذكريات الطفولة فى القرية إلى واجهة الأحداث سياسياً متحملا مسئولية الحكومة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى ديسمبر 2011 فى فترة من أصعب مراحل التاريخ المصرى.. ويخرج للناس سيرته الذاتية المعنية بالتسلسل الوظيفى وخرائط الأرقام وعلاقة مناصبه بمؤسسات الدولة وكبار المسئولين.. يعود الجنزورى مستشار الرئيس ليقوم بعد انسحاب اللواء مراد موافى رئيس المخابرات المصرية السابق، وفشل عمرو موسى مؤسس حزب المؤتمر بتكوين ائتلاف سياسى قوى يجمع كافة الأحزاب المدنية فى مصر لتشكيل جبهة موحدة تخوض انتخابات أخطر برلمان فى تاريخ مصر.. ويقترب الآن من إعداد قائمة الائتلاف لتضم عددا من الوزراء السابقين وأساتذة الجامعات، وبعض الشخصيات العامة، إلى جانب حزب المؤتمر، والتجمع، والحركة الوطنية، والشعب الجمهورى، ومصر بلدى، بالإضافة إلى اتحاد العمال.. وتعود الكفاءات إلى قلب الصورة إلى مركز التحفيز إلى شحن البطارية لتكمل مسيرة العمل الجاد فى موقع الاستشارة وجبهة التحالف الوطنى.. الدكتورة فايزة أبوالنجا كمستشار الرئيس لشئون الأمن القومى، واللواء أحمد جمال الدين كمستشار لرئيس الجمهورية للشئون الأمنية ومكافحة الإرهاب..
وينكمش ابن حفيظة بنسيج شاعريته فى غياهب النسيان.. أزوره مرات.. أحاوره.. أتأمله.. وهذه المرة أصطحبه معى.. أصحبه لصاحبه.. للجنزورى راوى قصته.. أستأذنه فى أن أخرج بسطوره إلى النور فيأذن لى ابن المنوفية وأبوالبنات ومؤلف قلوب الأحزاب فى ائتلاف..
[email protected]
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.