لماذا اختيرت اليابان لتدمير مدينتين من مدنها بقنبلتين ذريتين؟ جواب هذا السؤال عند روث بنديكت. والسؤال إذن: من هي روث بنديكت ؟ روث بنديكت أمريكية متخصصة في الانثروبولوجيا الثقافية. الانثروبولوجيا هي علم الإنسان والحضارة, أي هي علم يبحث في الإنسان منذ أن كان بدائيا, ومن هذا العلم فرع اسمه الانثروبولوجيا الثقافية وهو يبحث في عادات وتقاليد الشعوب المتخلفة, إلا أن روث لم تقف عند حد دراسة هذه الشعوب بل أضافت إليها الشعوب المتقدمة. وبفضل مؤلفاتها انتخبت رئيسا لجمعية الأنثروبولوجيا الأمريكية, ورئيسا للجمعية الأمريكية للتراث الشعبي. وفي يونيو1944 طلبت المخابرات الحربية الأمريكية من روث التفرغ لاستكشاف الثقافة اليابانية وسيكولوجية الشعب الياباني بدعوي أن اليابان عدو خطير في نظر الغرب. بدأت بإجراء لقاءات وحوارات مع اليابانيين الذين كانوا قد هاجروا إلي أمريكا قبل الحرب, ومع اليابانيين الذين أصبحوا أسري حرب. وشاهدت أفلاما وقرأت مؤلفات عن أحوال اليابان ثم أصدرت كتابا عن مشاهداتها وقراءاتهاتحت عنوان الكريزانتيم والسيف (1946) ترجم إلي اللغة اليابانية في عا م1948 وبيع منه 2 مليون نسخة. والسؤال إذن: ما هو الكريزانتيم ؟ وما العلاقة بينه وبين السيف؟ الكريزانتيم زهرة ظهرت في اليابان في القرن الثامن قبل الميلاد. ويقال عنها إنها زهرة قومية, إذ إن ثمة تماثلا بين عرشين: عرش الكريزانتيم وعرش الامبراطور, ولكن ليس ثمة تماثل بين الكريزانتيم والسيف, إنما ثمة تناقض بينهما فزهرة الكريزانتيم ترمز إلي الجمال والسيف يرمز إلي الحرب. ومعني ذلك أن عنوان الكتاب يزمع تفجير تناقضات في الثقافة اليابانية استندت روث في تفجيرها إلي التفرقة بين ثقافتين: ثقافة الإثم وثقافة الخزي. وظيفة الأولي ضبط الفرد والمجتمع وذلك بتطعيمهما بمصل الإثم مع توقع العقاب سواء في الدنيا أو في الآخرة. أما وظيفة الثانية فتضبطهما بتطعيمهما بمصل الخزي. والإحساس بالخزي مقبول ومشروع لأنه ملازم للسيف ولهذا فالسيف هو أيضا مطلوب ومشروع. وهنا المفارقة, وهي مفارقة ملازمة للشخصية اليابانية. ففي إمكان الياباني أن يكون مهذبا وفي إمكانه أيضا أن يكون متكيفا مع الجديد, وفي إمكانه أن يكون عصيا وفي إمكانه أيضا أن يكون مذعنا للسلطة أيا كانت, وفي إمكانه أن يكون مخلصا وفي إمكانه أيضا أن يكون خائنا, وفي إمكانه أن يكون مستمتعا بأن يموت بضربة سيف وفي إمكانه أن يكون مستمتعا باستنشاق رحيق زهرة الكريزانتيم. والخلاصة ماذا تكون؟ متعة الياباني بوجود متناقضين مع المحافظة عليهما. وأظن أن هذه المتعة علي الضد من الرأي الشائع إزاء المتناقضين. وهو علي نحوين. النحو الأول يكمن في حذف أحد المتناقضين والإبقاء علي الآخر. والنحو الثاني يكمن في قبول المتناقضين ولكن مع التخلص منهما وذلك بتجاوزهما بفضل ابداع فكرة جديدة. أما المتعة بالمتناقضين دون حذف أحدهما أو تجاوزهما معا فهذا نحو ثالث جديد ولكنه لا يستقيم مع الإبداع الذي يميز النحو الثاني. ولهذا فان الرأي الشائع عن الياباني أنه لا يبدع ولكنه يخترع, لأن الإبداع يستلزم تفكيرا نظريا مجردا, في حين أن الاختراع يتطلب تفكيرا عمليا عينيا. ويؤيد هذا الرأي الشائع ما ورد في كتاب العقل الياباني (1967) وهو جملة أبحاث حررها مفكرون يابانيون. وإذا كانت السوق العالمية محكومة بالاختراع أكثر مما هي محكوم بالإبداع فتكون اليابان هي القادرة علي التحكم في تلك السوق. ويبقي بعد ذلك سؤال: أين نحن من هذه الأنحاء الثلاثة ؟ المزيد من مقالات مراد وهبة