تظهر الابتسامة والدهشة على وجوه الاطفال عند الميلاد، ويظهر الاشمئزاز والحزن خلال ثلاثة شهور بعد الولادة، وتظهر الابتسامة الاجتماعية في الفترة من شهر ونصف حتى ثلاثة شهور بعد الولادة، ويظهر الغضب ما بين الشهر الثالث والشهر السابع، أما الخوف فيظهر ما بين الشهر الخامس والتاسع، ومعظم هذه الانفعالات ولادية فطرية نولد بها وتحتاج الوقت المناسب كي تظهر، فحتى الأطفال الذي يولدون مصابين بالعمى أو الصم أو حتى بلا أذرع يظهرون مثل هذه الانفعالات، وبالنسبة للكثيرين منا، تقع جوانب كثيرة من هذه الانفعالات الأساسية خارج تحكمنا الإرادي، فهي تحدث تلقائيًا، وقد لا نستطيع أن نقوم بها أو نتظاهر، على نحو تام، بالدهشة أو الحزن أو الابتسامة، كذلك الممثلون يعانون كثيرًا من هذا الأمر ويتدربون على التظاهر بمثل هذه الانفعالات، ولدى مدارس التدريب على التمثيل الكثير من الأمور التي حققتها في هذا الاتجاه. إن رسم الشخصية أو تصويرها فنيًّا أمر مهم لأنه يجسد الثقافة الإنسانية، وربما كان المجسد أكثر من غيره لتطورها. عندما رأى المفكر والناقد روجر فراي البورتريه الذي رسمه الفنان «سيرجنت» للجنرال سير إيان هاملتون قال: «بسبب هذا التشابه الشديد لا أستطيع أن أرى الإنسان الحقيقي». فهنا تشابه خاص بالسطح، بالملامح الخارجية، تشابه غالبًا ما يكون محايدًا، خلوًا من المعنى، أما مصورو البورتريه البارعون فيأخذوننا نحو الوجه الخاص بالشخص، لكنهم يعرضون أمامنا تكوينًا قد خلقه العقل. ليس التشابه الخارجي ما يقصده مصور البورتريه الفنان، بل التشابه والاختلاف أيضًا، فقد توجد خلف الملامح الجميلة طباع في منتهى الشر والدناءة (كما في رواية صورة دوريان جراي لأوسكار وايلد مثلاً)، وقد يكون العكس صحيحًا أيضًا، وقد تكون اللوحة أجمل ظاهريًا من الأصل، وقد تكون مماثلة له أو أقل منه. هكذا يعرض البورتريه ملامح جسمية صنعها العقل والوجدان، وهنا يمكن أن يجتذب الوجه اهتمامًا أكثر فنولع به مثل ولعنا بالأشخاص الأحياء، وليست هناك لوحة أكثر شهرة من ال»موناليزا» لليوناردو دافنشي، ولا من «فينوس» بوتشيللي، أو «دافيد» ميكلانجلو، «ولا صرخة مونش» وقد تكون حياة الإنسان كلها أشبه بكذبة بالنسبة إليه وبالنسبة للآخرين، هكذا كتب وليم هازلت (1778 – 1830) يقول، وقد كان هو نفسه مصور بورتريه: «ومع ذلك فإن صورةً ترسم لهذا الإنسان بواسطة فنان عظيم قد تطبع شخصيته الحقيقية فوق قماشة الرسم، وتكشف ذلك السر الذي حاول أن يخفيه دائمًا». فهل ما يوجد في الوجه مجرد مجموعة من الخصائص الفراسية او الخاصة بالتعبيرات الانسانية؟ هل ما يوجد فيه هو ما نسقطه عليه عندما نراه من مشاعرنا وأفكارنا وذكرياتنا التي نعتقد أنه يعكسها؟ أم أنه هو الذي يخرج من داخلنا بفضل بعض خصائصه الفنية الجمالية الشكلية وبعض مشاعرنا الإيجابية أو السلبية؟ يقع جوهر هذا الأمر، فيما نعتقد، في قلب ما يسمى بعملية التعبير، ويقترب الفنانون من موضوع التعبير على أنحاء وزوايا شتى، تتعلق إحدى هذه الزوايا بما يسمى «الحصيلة» أو الخلاصة، إذ يسعى مصورو البورتريه إلى مزج أو صهر العديد من اللحظات في لحظة واحدة، إنهم يبتعدون عن التعبير المباشر عن الانفعالات القوية، وذلك لأنهم من خلال تجميدهم مرة ثانية واحدة من خلجات النفس الموجودة على السطح قد يغامرون بفقدهم الأعماق الخاصة بالجالس أمامهم. كيف يمكن أن يكتشف الفنان الروح الحقيقية لشخصيات تكون بحكم طبيعتها ودورها في الحياة قادرة على التظاهر والتلون والإيهام والتحكم في المشاعر والقدرة على لعب أدوار عدة ومتنوعة مثل الممثلين؟ لقد رسم السير جوشوا رينولدز إحدى الممثلات في لوحته «سارة سيدونز الحورية المأساوية»، في اللوحة تجلس هذه الممثلة وقد رفعت ذراعها الأيسر مثل عمود درابزين قاتم اللون، وحولت رأسها ناحية اليسار وقد ارتفعت به قليلاً كما لو كانت قد سمعت توًّا نداء من وراء كواليس المسرح، ووفقًا لما ذكرته هذه الممثلة بينما كانت تتذكر تلك المناسبة الخاصة بها، فإن رينولدز قد قال لها: «اصعدي فوق عرشك الذي لا ينازعك فيه أحد، ثم امنحيني برشاقة وفتنة تلك الفكرة العظيمة الخاصة بالحورية التي تحيا فاجعة»، فهل كانت سارة سيدونز هنا تختار وضعًا تبتكره؟ أم كانت تنفذ توجيهات رينولدز؟ هل كانت تمثل هنا؟ أم كانت تعبر بالفعل عن ذاتها؟ وأي ذات حقيقية موجودة هنا مع ما نعرفه من حالات تداخل وحلول تبادلي بين الشخصيات الحقيقية والشخصيات الخيالية أو الفنية في عالم الممثلين؟ إن الذكاء أحيانًا ما يخدع الفنان، ومن ثم يكون عليه أن يلجأ إلى حدسه وأن يستفتي قلبه ويصور ما يرى أنه حقيقي أو كاشف، على الأقل من وجهة نظره عن الشخصية التي تجلس أمامه أو التي ينظر إلى صورها في الصحف والمجلات وعبر شاشات السينما والتليفزيون. إن المهم هنا، كما يقول بعض الفنانين، القدرة على الاحتفاظ بالجوهر الدال والكاشف للشخصية. رأيت في صيف عام 2014 المزعج في القاهرة، مرتفع الحرارة كثير انقطاع الكهرباء، مجموعة من اللوحات لدى صديقي الفنان التشكيلي عادل السيوي، مجموعة اللوحات التي رسمها عن عدد كبير من الفنانين الشباب الذين يضربون بأيديهم على الطبول والرق وغيرها من الآلات الموسيقية الشعبية، في وجوههم خجل ما وفرح مكتوم، ومع ذلك فإن في نظراتهم مكر وتعالٍ وخفة واستغناء عن هذا العالم، أشكالهم تبدو أقرب إلى ثنائي الجنس أو حتى المثليين، وملابسهم تدل على سرهم على نحو ما، أما عيونهم فهي النوافذ التي تطل على باطنهم وتكشف عن هذا الولع الكبير الذي يعتمل بداخلهم تجاه الحياة. ثمة شبه ابتسامة ترتسم على وجوه هذه الشخصيات وثمة مشاعر متصارعة تدفعهم نحو الأمام والخارج أو إلى الخلف والداخل، ووحدها العيون تكشف سر هذه الشخصيات أو تشي بإحساسهم الداخلي الخاص بذواتهم وبموقعهم في هذه الحياة واحساسهم الخاص بوجودهم فيها. أحيانًا ما يخدع ذكاء الشخصية فرشاة الفنان، ولمساته، وأحيانًا لا ظهر كيفية نشاط العقل على الوجوه، فماذا يستطيع الفنان أن يفعل؟ إنه قد يصور الشخصية بينما تقوم بنشاط عقلي، وكما فعل البرخت دورر مثلاً عام 1526 وهو يرسم البورتريه الخاص ب«إرازموس» وهو يجلس يكتب على منضدة، ووجهه مستغرق في التفكير، وقد يعتمد الفنانون أكثر على الخلفية، كما يفعل المحامون في مؤتمر صحفي، إذ يجلسون أمام حائط تستند عليه مكتبة زاخرة بالكتب والمجلدات التي يقرأون شيئًا منها، لكن خلفية المشهد سرعان ما تتسلل إلى الشخصية وتتخللها. قد تتفوق الكاميرا في التقاط الطابع المميز للشخصية، كذلك في التقاط لزمات هذه الشخصية، خلجاتها وتكشيراتها، وقد يضع الفنان ما يعرفه حول شخص ما في لوحته، لكن المصور الفوتوغرافي يقوم بتجميد عدد من الصور الخاصة بالوجه، إذ تصبح الالتفاتة أو الاختلاجة شديدة الوضوح. قد تستغرق اللوحة ساعات أو أيامًا أو أسابيع، أما المصور الفوتوغرافي فقد يصور بكرة كاملة أو اسطوانة فيلم كامل خلال دقائق، وسوف تظهر العديد من لقطاته تعبيرات تبدو إنسانية الطابع بالكاد . في عام 1956 قال مؤرخ الفن جومبريتش: «إنني أشك في أننا قد نستطيع البتة أن نكون واعين بتلك التغيرات تمامًا التي تجعل وجهًا يضيء بابتسامة أو تهيمن عليه سحابة من المزاج من خلال ملاحظتنا ببساطة للأشخاص حولنا، وذلك لأننا نرى حقيقة فقط الوجه المبتسم المضيء وليس التغير الخاص بالتقلصات العضلية المصاحبة له». وقد كان على حق؛ ذلك لأن التصوير الفوتوغرافي يبدو أنه يؤدي خدمة أخرى، إنه يجلب العلم ويدفعه نحو الفحص والاستكشاف لإشارات الوجه وتعبيراته، الخفية منها والجلية. لا تستطيع أن تقدم الكاميرا جوهر الإنسان، أما الفنان فيفعل، تقف الكاميرا عند سطح التعبير، أما الفنان المصور فيدخل في أعماق الشخص وتاريخه ثم انه يحاول أن يجسده لنا من خلال بورتريه أو صورة. فما الذي يميز صورة دافنشي «الموناليزا» عن مارلين مونرو التي رسمها آندي وارهول ليست الهالة التى تحدث عنها فالتر بينيامين والتي تصاحب الاعمال الفنية الاصلية هي التى تميز بينهما، فلوحة وارهول أصلية مثلها مثل لوحة دافنشي، لكل منهما هالته الخاصة، على الرغم من اختلاف العصر والفنان والأسلوب الذي تم تنفيذ كل لوحة من خلاله، ومع ذلك ثمَّة ما يميز لوحة دافنشي عن الأخرى، ربما الهالة المحيطة بكل فنان، ف»هالة» دافنشي أكبر يقينًا من «هالة» وارهول، والعصر الذي عاش فيه دافنشي كان عصر الهالات في العلم والفن والدين والحياة، بينما العصر الذي عاش فيه وارهول كان عصر تحطيم الهالات، وربما عبَّر دافنشي في لوحته عن حضور الروح الإنسانية وعن غيابها أيضًا، أما وارهول فمعنيٌّ اكثر بتحول الإنسان نفسه إلى سلعة تباع وتشترى، تستهلك وتموت. هناك تاريخ مجيد لفن البورتريه المصري، يمتد منذ تلك الاعمال الجميلة الموجودة على جدران المعابد والاديرة ووصولا الى القرن العشرين بعد تأسيس مدرسة الفنون الجميلة عام 1908 والتى تخرج منها مبدعون كبار امثال احمد صبري ومحمد حسن ويوسف كامل ومحمود سعيد ومحمد ناجي وصبري راغب ثم، وتمثيلا لا حصرا، حسين بيكار وعز الدين حمودة واجيال كثيرة تالية حملت الراية وواصلت المسيرة