لعل السؤال الذى يطرح نفسه فى العالم العربى الآن هو من حزب حركة "نداء تونس" هذا الذى تمكن من التفوق على "النهضة" أقوى الأحزاب الإسلامية المصرح لها قانونا فى المنطقة ،وحرمها من العودة إلى تشكيل الحكومة فى أولى دول ثورات الربيع العربي؟ ولماذا جاء هذا الحزب الأول فى الانتخابات التشريعية بتونس، وعلى حساب "النهضة" الذى يضرب بجذوره إلى عقد السبعينيات ،ومع أنه لم يتأسس إلا فى يونيو 2012، أى منذ أقل من عامين ونصف العام ؟ فى محاولة للتعرف مبكرا على هذا «النداء» الذى أطلق عليه خصومه مع مولده وصف " الظاهرة الإعلامية ليس إلا «كنت قد ذهبت إلى مقر الحزب بالعاصمة فى نوفمبر 2012. ولفت نظرى صورة ضخمة معلقة لمؤسس تونس الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. ولقد استدعت الصورة على التو لقاء مع زعيم الحزب «الباجى قائد السبسى» فى مقر الحكومة بالقصبة، وقتما كان رئيسا للوزراء فى الحكومة، التى أجريت فى عهدها انتخابات المجلس التأسيسى خريف 2011، وجلبت «النهضة» إلى الحكم . فقد لاحظت غطاء رأس مميزا مطروحا على أحد مقاعد الغرفة . فاستفسرت فأجابنى «سى الباجي» بأن بورقيبة كان يرتدى مثل هذا الغطاء. وواقع الحال فإن علاقة " السبسي" بأول رئيس لتونس الملقب ب «أب التونسيين» يقاسمه فيها العديد من شخصيات الدولة التى تولت مناصب وزارية وحزبية ( وقت الحزب الواحد) فى زمن بورقيبة المديد ( 1956 1987). لكن الرجل الذى ألف كتابا ضخما فى الوفاء للزعيم بعنوان " الحبيب بورقيبة المهم فالأهم " لعب بمهارة بعد الإطاحة ب «بن على» على ميراث البورقيبية . فأعاد تقديم نفسه للتونسيين فى صورة بورقيبة الأب .
وأى محاولة لفهم «النداء» يجب أن تنتهى إلى دور الزعيم المؤسس . وقصة مولد الحزب فى ذاتها خير شاهد. وكما روى لى «الأزهر العكرمى» لدى زيارتى لمقر الحزب، فقد بادر السبسى منفردا فى 26 يناير 2012 إلى إصدار نداء إلى مختلف القوى السياسية للتوافق على الدفع نحو انتخابات مبكرة، مستغلا سخط قطاعات من الرأى العام على حكم الترويكا الثلاثى بقيادة النهضة، والتخوف من جر البلاد إلى مشروع «دولة دينية». وكما قال «الأزهر» وهو وزير سابق فى حكومة السبسى بعد الثورة: «اتضح إلى أى حد مع نهاية ولاية حكومة السبسى أن هذا الرجل محبوب شعبيا، وأن هناك رضا من الجمهور على أداء حكومته. فقد نجحت على الأقل فى الحد من الخسارة فى الاقتصاد وأعادت الأمن و اعتمدت فى الإدارة على ثقافة الدولة. ومع الوقت كلما تبين سوء أداء حكومة الترويكا أخذ الناس فى المقارنة بينها وبين حكومتنا».
وبالقطع فإن «النداء» ليس حزبا أيديولوجيا عقائديا. فقيادته تأتى من مشارب متنافرة اجتمعت حول «السبسي» . فهناك النقابيون كالأمين العام الطيب البكوش، وهو واحد من الشخصيات المهمة فى تاريخ الاتحاد العام للشغل «العمال»، والدستوريون «نسبة إلى رجال عهد الحزب الحاكم زمن بورقيبة»، وحتى التجمعيون «نسبة إلى تغير اسم الحزب الحاكم مع زمن بن على»، فضلا عن ليبراليين وبعض الشخصيات المحسوبة على اليسار. كما يضم الحزب ويقف وراءه ماليا مجموعة بارزة من رجال الأعمال، لاتخلو ممن ينتسبون إلى رأسمالية محاسيب زمن بن على. ولقد أثارت هذه التركيبة المتنافرة فى قيادة الحزب ومازالت توقعات بانفجار الحزب من الداخل عند أى أزمة. وربما يفسر هذا من بين أسباب أخرى لماذا لم يعقد «النداء» مؤتمره التأسيسى إلى الآن . ولماذا لم ينتخب هياكله القيادية بعد. لكن الحزب استطاع تجاوز أزمة ترشيحات رؤساء قوائمه للانتخابات التشريعية فى الدوائر المهمة. وإن كان قد خسر فى هذه الأزمة العديد من نوابه فى المجلس التأسيسى «انخفض عدد كتلة من انضموا للحزب من 11 نائبا إلى نائبين فقط».
ومفارقة فوز «النداء» فى الانتخابات التشريعية رغم كل هذه الملابسات تتمثل أيضا فى أنه ليس بالحزب جيد التنظيم على غرار حالة «النهضة». صحيح أن مصادر الحزب تقدر عدد أعضائه بنحو 100 ألف. وهو رقم مقارب لأعضاء النهضة. لكن قصر عمر الحزب وعدم عقد مؤتمره التأسيسى يمنعان بناء تنظيم قوى . ومع هذا فإن الحزب أثبت فى هذه الانتخابات أنه يمتلك ماكينة انتخابية لابأس بها تستند إلى إمكانات وافرة، وإلى خبرات سياسية لرجال دولة. ويبدو أن «النداء» قد عوض ضعفه تنظيميا أمام النهضة بالنجاح فى تسويق نفسه إعلاميا بوصفه البديل السياسى عنه والمناقض لمشروعه الإسلامى. هذا على الرغم من أن النهضة يمزج بين الإسلام السياسى والحداثة. ولقد استثمر «النداء» منذ مولده فى أن تونس تعيش استقطابا سياسيا بين العلمانيين والإسلاميين. وأن طرفى هذا الاستقطاب تحديدا هما النهضة والنداء. ومع المعركة الانتخابية لم يهادن الحزب فى تأجيج هذا الاستقطاب فى مواجهة خطاب النهضة التوافقى الذى ينكر هذا الاستقطاب ويسعى لتجاوزه. والأهم فى سياق المعركة الانتخابية أن الحزب رفع شعار «التصويت النافع»، داعيا الناخبين إلى التركيز على التصويت له. وبزعم أن التصويت للأحزاب العلمانية الأخرى يصب فى صالح النهضة ويمنحها الفرصة كى تحل أولا، فيجرى تكليفها بتشكيل الحكومة الجديدة .ومن ثم يعود الإسلاميون إلى الحكم.
عوامل الضعف فى «النداء» التى أشرنا لها سابقا وفى ظل خريطة حزبية سريعة التغيير والتقلبات ترجح كون هذا الحزب حصد معظم أصواته بفضل الاقتراع العقابى لناخبين أرادوا أن يعترضوا على النهضة وتجربته فى الحكم، وبعدما خابت آمالهم فى وعوده التى قدمها عام 2011. وهكذا صوتوا للنداء ليس اقتناعا به .بل لأنه بدا فى ظل صورة الاستقطاب التى روج لها الإعلام بمثابة البديل العملى الذى يمكنه هزيمة الإسلاميين. وهذا بصرف النظر عن برنامج النداء الانتخابى .وهو برنامج ينتمى على صعيد الخيارات الاقتصادية والسياسية إلى يمين الوسط والليبرالية الجديدة . تماما كبرنامج «النهضة».
ولأن الانتخابات هذه المرة تغلب عليها الاعتبارات الشخصية أكثر مما كان عليه الحال فى خريف 2011 فقد لعب رؤساء القوائم فى الدوائر دورا أكثر تأثيرا .وهكذا لم يكن برنامج الحزب أو قوته التنظيمية وقدرته على الحشد فى المؤتمرات الجماهيرية هى العوامل الحاسمة فى اختيارات الناخبين. بل جاء أولا مدى شهرة رؤساء القوائم وعلاقتهم بأبناء الدائرة. وفى هذا السياق فإن السبسى وحلقة ضيقة محيطة به قرأت هذه المتغيرات جيدا. وعملت على اختيار رؤساء قوائم الحزب بعناية وفق هذه المتغيرات. علما بأن ثقل «النداء» يتركز فى دوائر الساحل التونسى بشرقى البلاد خلافا لحالة النهضة الذى تعد دوائر ولايات الجنوب معقله التقليدي. وقد سجلت نسب التصويت إقبالا فى الشمال عنه فى الجنوب . كما أن هناك تقديرات بأن الشباب المحبط من بطء التغيير بعد الثورة على مستوى أحواله المعيشية وحقه فى العمل قد عزف عن المشاركة إلى حدما .هذا مقارنة بمشاركة ملحوظة لكبار السن والنساء ،ممن يتوجسون من «النهضة» ويرون انه يخفى مشروعا يهدد مكاسب الدولة المدنية منذ عهد «بورقيبة».
مستقبل النداء يتوقف بالأساس على مؤسسه وزعيمه «السبسى» (88 عاما). وأيضا على نخبة قيادته التى تنتمى أساسا إلى بورجوازية العاصمة جيلا بعد جيل، والمرجح أنه فى حال فوز «السبسي» نفسه بالرئاسة، فإن «النداء» سيستبعد «النهضة» ويأتلف مع أحزاب أقل تمثيلا فى البرلمان .