مظاهر الحياة فى شوارع العاصمة التونسية لا توحى كثيرا بأن ساعات تفصلنا عن ثانى انتخابات تشريعية بعد الثورة . وحرارة الجدل السياسى فى المقاهى وعلى قارعة الطريق، تبدو أقل مقارنة بانتخابات المجلس التأسيسى في23 أكتوبر2011، والتى جلبت حزب "النهضة" الإسلامى إلى الحكم لمدة عامين بالتحالف مع حزبين علمانيين . وعلى الرغم من أن أعداد الذين تقدموا لسجلات الناخبين تجاوز ما كان عليه الحال عام2011، حيث هم الآن وفق أرقام الهيئة المستقلة العليا المشرفة على الانتخابات نحو أربعة ملايين و285 ألف ناخب .لكن لا أحد بإمكانه الإجابة على هذا السؤال: هل يتجاوز عدد المصوتين هذه المرة من أدلوا بأصواتهم فى أول انتخابات بعد الثورة (3.6 مليونا )؟. جانب من غياب الصخب الانتخابى فى الشوارع يعود إلى سبب فنى ليس إلا . فهذه المرة تبدو الدعاية الانتخابية أكثر تنظيما .إذ أنه من غير مسموح تعليق أى لافتات أو ملصقات خارج مساحات محددة وموزعة بالمساواة بين 1327 قائمة انتخابية حزبية ومستقلة وائتلافية تخوض المنافسة فى 27 دائرة داخل البلاد. ناهيك عن ست دوائر بالخارج. لكن مثل هذا السبب الإجرائى لا يفسر انحسار الجدل السياسى بين المواطنين التونسيين . وعلى وقع تخوفات بين الطبقة السياسية من إقبال أقل هذه المرة ، قال لنا الأكاديمى والمراقب المخضرم الدكتور " الصادق بلعيد" :" من الصعب بحق التكهن بما سيكون عليه الإقبال غدا" .وأوضح فى إشارة إلى النهضة :" فى عام 2011 كان هناك حزب رئيسى أحسن الناخبون الظن به ومنحوه 41٪ من المقاعد، والآن الكثير ممن منحوا هذه الثقة لهذا الحزب او لحلفائه فى الحكم نادمون عليها ". لكنه استدرك قائلا :"وهذا لا ينفى أن الحزب ما زالت له قاعدته الجماهيرية الكبيرة". وفى الأيام الأخيرة التى سبقت يوم الصمت الانتخابى، انخرط النهضة برئاسة راشد الغنوشى، ومنافسه الرئيسى حزب نداء تونس بزعامة البورقيبى العتيد الباجى قائد السبسى فى مؤتمرات جماهيرية أشبه بمباراة استعراض قوة فى الفضاء العام . وقد أكد مشهد الموتمرات الانتخابية لمختلف القوائم ما ذهبت اليه استطلاعات الرأى العام قبيل بدء الحملة الانتخابية من أن هذين الحزبين يتصدران السباق دون منافس . وفى حالة "النهضة" فإن استعراض الحشود هذا يكشف عن ماكينة حزبية انتخابية محترفة وقوية . أما بشأن " النداء" وهو تحالف تأسس فى عام 2012 فقط من ليبراليين، وتجمعيين سابقين، عملوا فى نظام الرئيس المخلوع بن على، أو من أنصاره ويرفع شعار الدفاع عن الدولة المدنية فإن مثل هذه الحشود تترجم ثقل الساخطين على حكم النهضة. وأيضا وفرة الإمكانات، ودعم رجال الأعمال. وباستثناء النهضة والنداء، تبدو المؤتمرات الانتخابية شاحبة،بما فى ذلك مؤتمرات الجبهة الشعبية اليسارية، برئاسة حمة الهمامى التى رشحتها استطلاعات الرأى لتحل فى المركز الثالث . وواقع الحال، أنه مع سير المعركة الانتخابية اتضح أن المركز الثالث للجبهة عرضة للاختطاف من جانب أربعة أحزاب ترأسها شخصيات من نظام بن على . ويطلق عليها الإعلام التونسى الأحزاب الدستورية، نسبة إلى التجمع الدستورى المنحل. وهذه الأحزاب الأربعة مرشحة للائتلاف لاحقا فى كتلة دستورية داخل البرلمان. لكن زهير حمدى، القيادى فى الجبهة الشعبية، استبعد أن يعيد التونسيون إنتاج الماضى. وقال:"سنكون نحن فى المركز الثالث وليسوا هم .ونحن نراهن على وعى وذكاء الناخبين ". وأضاف :"الصراع فى هذه الانتخابات ليس على برامج بل على مشروعات كبرى . ونحن نتقدم فى مواجهة مشروعى الاسلام السياسى، والليبرالية الجديدة بمشروع دولة مدنية ديمقراطية ترعى الحريات والعدالة الاجتماعية". و نتيجة للمكون التجمعى داخل قيادة وجسم النداء، فإن العلاقة مع أحزاب الكتلة الدستورية محل أخذ ورد. ولعله من مناورات اللحظات الأخيرة قبل الانتخابات قيام الأمين العام السابق لحزب التجمع المنحل محمد الغريانى بالإعلان على الهواء فى برنامج تليفزيونى عن استقالته من النداء، ومن مسئولية المستشار السياسى للسبسى. وقد شفع الاستقالة بقائمة اتهامات بأن الحزب غير ديمقراطى، ولا يقدم بدائل حقيقية . واعتبر مراقبون أن هذه الاستقالة ضربة فى توقيت قاتل، وتخصم من رصيد النداء لحساب الأحزاب الدستورية . إلا أن القيادى فى النداء الأزهر العكرمى، حاول التهوين من عواقب هذ التطور . وأبلغنا فور اختتام مؤتمر حاشد لحملة قائمته الانتخابية فى ولاية بن عروس المجاورة للعاصمة، أن الغريانى بخطوته هذه، وفى هذا التوقيت، عمل لحساب النهضة.ووصف الرجل بأنه "مع السلطة فى أى مكان". واللافت أن إجابات العكرمى على اسئلتنا تجنبت أى هجوم على الأحزاب الدستورية . ثمة فى خريطة القوى المتنافسة أيضا لاعبون غير هامشيين. فأحزاب منها: الجمهورى لنجيب الشابى، والتكتل لرئيس المجلس التأسيسى مصطفى بن جعفر و المؤتمر، الذى أسسه رئيس الجمهورية منصف المرزوقى ومعظمها ينتمى إلى يسار الوسط تملك حظوظا وإن كانت محدودة فى الخروج ببضعة مقاعد. وعلى أى حال، فإن النظام الانتخابى جرى تصميمه على قاعدة النسبية، وبما يحول دون إعادة إنتاج ظاهرة الحزب الواحد (حزب الأغلبية المطلقة الساحقة)،والتى هيمنت على تاريخ تونس منذ استقلالها عام 1956 وحتى الإطاحة ببن على قبل نحو أربعة أعوام. وفى حى مونبليزير بالعاصمة، يلفت نظر المتردد على المقر الرئيسى لحزب حركة النهضة أن هذا البناء المميز يبدو أقل جاذبية من ذى قبل، خصوصا أن الطرق المحيطة به أصابها الإهمال وأعمال الحفر. لكن المتحدث باسم الحزب زياد العذارى قال إن النهضة ستحتفظ بكونها القوة رقم واحد فى البرلمان . ولم يستبعد فى تصريحاته لنا أن تحقق نسبة مقاربة لما أنجزته فى عام 2011 . وأضاف قائلا:"لدينا رصيد انتخابى ضخم.. و مؤتمراتنا كانت ناجحة جدا ..نحن متجذرون فى هذا الشعب". وبعد أن عبر عن رضا حزبه عن أداء هيئة الانتخابات، نفى ماردده العكرمى من اكتشاف رؤساء للجان انتخابية من المنتسبين إلى النهضة بالمخالفة للقانون، الذى ينص على الحيادية . بل ذهب العذارى إلى أن النهضة لديها كذلك قوائم برؤساء وأعضاء لجان انتخابية ينتسبون إلى خصومها . وينتهى كما العكرمى إلى القول "إن أداء هيئة الانتخابات بشكل عام مقبول، ولن نترك مثل هذه الملاحظات الجانبية تعكر صفو العرس الانتخابى". وكشفت شخصية أوروبية فى تونس لنا عن أن دفع الفرقاء فى تونس إلى الثقة بالعملية الانتخابية لم يكن بالأمر السهل. وقال المصدر الذى رفض الكشف عن اسمه إن الأوروبيين كانوا على الخط مع عملية بناء ثقة طويلة استمرت شهورا .وتوجتها جلسات حوار وطنى رعته أربع مؤسسات للمجتمع المدنى، يتقدمها الاتحاد العام للشغل . علما أن يوم الاثنين الماضى شهد جلسة لهذا الحوار طرحت خلاله أحزاب تخوض الانتخابات قلقها من ظاهرة المال السياسى الفاسد . سواء تمثل فى الإنفاق الباهظ المتجاوز للحدود القانونية أو شائعات عن محاولات ستجرى لشراء الاصوات فى مناطق الفقر والتهميش . لكن بين التونسيين من ينظر إلى هذه الانتخابات فى إطار لعبة دولية كبرى . ومثال ذلك المعلمة النقابية حد الزين عمامى، التى ذكرت أنها امتنعت عن الترشح لأن "المنافسة الجدية تحتاج إلى أموال وفيرة وآلة حزبية ودعم خارجى". وهى فى هذا السياق ترى أن النهضة مازالت إلى حد ما الخيار المفضل للأمريكيين ،فيما يقف الفرنسيون بحسم أكبر الى جانب " النداء". وبصرف النظر عن مصداقية هذا التصور ، فإن النهضة تتقدم إلى هذه الانتخابات بخطاب واضح يدعو الى حكومة وحدة وطنية لا تسثنى النداء و أحزاب رجال بن على . أما النداء" فدعايته تبدو أكثر تحفظا فى إعلان القبول بحكومة ائتلافية مع "النهضة" . وخصوصا أنه يركز فى خطابه على اتهام الحركة الإسلامية بأنها تهديد للدولة المدنية و الهوية الوطنية التونسية . وفى كل الأحوال فإن فرنسا كانت قد استضافت منذ شهور جولات من الحوار الثنائى بين السبسى والغنوشى .وهو أمر يجعل المراقبين هنا لا يستبعدون ائتلافا حكوميا يضم النداء و النهضة معا. ومن يطالع بتمعن البرنامجين الانتخابيين للحزبين ( نحو ستين صفحة لكل منها )، سيلاحظ مدى التقارب على صعيد السياسات الاقتصادية والاجتماعية وتبنى خيار الليبرالية الجديدة .بل بالإمكان تصنيف الحزبين على خريطة السياسة لتونس فى خانة واحدة هى : يمين الوسط . لكن خريطة الائتلاف الحكومى المقبل الذى سيخلف حكومة التكنوقراط برئاسة " مهدى جمعة " لن تتضح إلا بعد الإعلان عن نتائج انتخابات الغد.