يظل الفارق بين الإنسان وسائر الكائنات فارقا وجوديا بامتياز رغم أى تشابه فسيولوجى أو أصل بيولوجى يجمع بينه وبينها؛ فحتى الحيوان الأكثر رقيا يفتقد بعدا من الأبعاد العميقة للوجود الإنسانى وهو القدرة على التسامى، إذ يعيش من دون قدرة على تفهم الفارق بين: الخطأ والصواب، الظلم والعدل، الجميل والقبيح. أما الإنسان فهو ذلك الكائن المتسامى، الذى يحيا ويدرك ببصيرته أنه يحيا، إذ يجعل من ذاته موضوعا لأبحاثه وتأملاته. ولا يعنى ذلك أن جميع البشر قد حققوا سموا أخلاقيا، فلا شر ولا عنف، بل يعنى فقط نزوعا إلى السمو لدى مجمل النوع الإنسانى، وإن عانى بعضه من السقوط فى وهدة العادية والعبث والشر، فالإنسان هنا ليس كينونة مغلقة تامة الصنع، ولدت مكتملة تنطق بالخير كله، أو بالشر جله ولكنه بمثابة صيرورة دائمة، يسعى خلالها إلى التعرف على نفسه، وتحقيق الخير الأقصى له بحسب اعتقاده هو، قد ينجح حينا ويفشل أحايين، ولكن ذلك ليس مهما، فالمهم فقط ألا تتوقف محاولاته، فعندها فقط تذبل إنسانيته، وتخضع لنوع خاص من العدم يتمثل فى انعدام الإرادة الأخلاقية. وربما كان الحيوان يخاف كالإنسان، غير أنه ذلك الخوف الغريزى على الطعام خشية الجوع أو على الجسد خشية الافتراس، وهو خوف يتشارك فيه مع الإنسان، ولكن الأخير يزيد عليه أنواعا أرقى من الخوف: خوفا دينيا من الله عندما يرتكب إثما يؤرق ضميره المؤمن.. خوفا ميتافيزيقيا من الفناء الذى يراه وهو يصيب جيرانه وأقرباءه وأصدقاءه.. خوفا نبيلا على الغير ممن يواجهون الحرمان والظلم. وقد يقلق الحيوان، خصوصا الأكثر تطورا من الناحية السيكولوجية، ولكن قلقه ليس إلا شعورا مصاحبا للخوف على (الراهن)، وليس ذلك القلق الوجودى الناجم عن تخوف الإنسان من المستقبل وهواجسه إزاء (المصير). وقد يميل ذكر الحيوان إلى أنثاه، غير أنه لا يستطيع أن يحب، لأن ميله انعكاس مباشر لغريزته التلقائية أو سلوكه الجنسى البدائى، بينما الحب الإنسانى الحقيقى له بعد جوانى عميق وشفاف يكاد يشبه تجربة صوفية باطنية هائلة، تتجه نحو آخر بعينه، مفرد ومتميز ومُلهم، وليس أى آخر يجسد النوع الإنسانى فقط. الإنسان هو الكائن الوحيد الذى يتمتع بالذاكرة والخيال. فبينما تعيش أرقى الحيوانات فى الحاضر وحده، يعيش هو فى الحاضر وكذلك فى الماضى والمستقبل، فتراه يستعد لمستقبله، ولكن على هدى من خبراته الماضية، فيتصرف وفقاً لحكم مأثورة، أو ينفذ خططاً مدروسة، استعدادا لأزمنة قد لا يتمكن من العيش حتى يراها. وحتى لو كان الإنسان خاضعا مع كل الكائنات لقانون العدم، فميزته الكبرى أنه وحده الأكثر وعيا بذلك القانون، وإدراكا لحقيقة أن هناك معنى ما يكمن وراء ذلك العدم، فالإنسان وحده هو من يعرف الموت، بل يستعد، سواء بثقة وهدوء أو بهلع وخوف، إلى لحظة موته؛ حتى إن البعض ممن يهرمون يقومون بتجهيز أكفانهم بعد أن يبنوا قبورهم، بينما الحيوان يعرف الموت مرة واحدة، إذ يصادفه الموت فقط دون انتظار. وربما كان هناك فارق بين موت يأتينا فى نهاية الشيخوخة، نجلس لننتظره، كل على طريقته، وبين موت صادم يداهمنا فى ريعان الشباب أو فى سن النضج. فالأول تطبيق لسنة كونية معتادة، أن يموت القديم والهرم تاركا المجال لما هو جديد وواعد. والثانى تجسيد لحكمة إلهية ترى ما لا نراه. الأول يمكن نسبته إلى أفكار عن الخلق تتمحور حول الطبيعة، وتعول على النشوء والارتقاء، وتتحدث عن نظام منطقى، صارم ومنظم للفناء. أما الثانى فيشى لنا بالمغزى الأعمق لوجودنا فى هذا العالم: ليس فوق قدر الله قوة، ولا يوازى حكمته عقل، فالأمر له وإليه. يواجه الإنسان بموته حقيقة محدوديته، ولكن منبع تساميه يبقى كامنا فى إدراكه تلك المحدودية، مثلما تنبع عظمته فى تصالحه معها ورضاه بها وتسليمه لها، مدركا أن العمر القصير والموت المفاجئ لا يعنى أن مشروع حياته قد انتهى بالفشل أو تم إجهاضه، بل ربما كان ناجحا إلى الحد الذى أتى ثماره سريعا، فلم يعد لاستمرار معاناته سبب جوهري. يرتبط الفشل هنا بالجسد فقط، مادة الحياة، الذى واجهه العدم سريعا فانهزم أمامه، فيما يرتبط النجاح بمغزى الوجود، وقيمه الجوهرية، وكيف استطاع هذا الشخص أن يضيف إليها، وذاك الشخص أن يسحب منها، وتلك قدرة لا تتوقف على العمر، فكم من أناس عاشوا طويلا بأجسادهم، وهم أموات، لم يدركوا معنى لشىء، ولا مغزى لقيمة، حتى صار موت أحدهم وكأنه حياة للمعنى. ولهذا كان لحياة الأبطال قيمة كبيرة فى التاريخ، سواء أبطال العقل (الفلاسفة والمفكرون الذين علمونا وأرشدونا إلى حقيقتنا) أو أبطال السياسة والسلاح (الحكام والقادة الكبار الذين بنوا الأمم ودافعوا عن الأوطان). يموت الأبطال بيننا ولكنهم يعيشون فينا وفى الأزمان التى تلينا، ويعيش الأوغاد بيننا أمواتا، فلا نسمع سوى ضجيجهم الباطل، ولا نرى سوى شرهم الظاهر. هذا الفارق بين الأبطال والأوغاد هو ما نجده بين صلاح الدين قاهر أعداء الأمة، وأيمن الظواهرى المعربد فى أبناء الأمة.. بين عبدالمنعم رياض وسعد الدين الشاذلى حماة الأوطان، وبين الزرقاوى والبغدادى، أمراء الإرهاب أعداء الأوطان فى كل زمان.. وهو نفسه الفارق، بين المودودى وقطب ومحمد عبدالسلام، وغيرهم من أمراء التكفير، كهنة الأديان فى كل مكان، فهؤلاء علمونا معنى الإنسانية، وأولئك أهدروا قيمة الإنسان. لمزيد من مقالات صلاح سالم