يظل الفارق بين الحيوان والإنسان فارقا «وجوديا» بامتياز رغم أى تشابه فسيولوجى أو أصل بيولوجى مشترك بينهما يمكن الحديث عنه، فالحيوان يفتقد بُعدا من الأبعاد العميقة للوجود الإنسانى، وهو التعالى أو التسامى، إذ يعيش ويحس ولكن من دون امتلاك لملكة الحكم على حياته أو إحساسه، ودون قدرة على تفهم حقيقة الخطأ والصواب، ومعنى الظلم والعدل، ومغزى الجمال والقبح. أما الإنسان فهو الكائن الذى يحيا ويحس ويعرف ببصيرته أنه يحيا ويحس، إذ يجعل من ذاته موضوعا لأبحاثه وأحكامه وتأملاته، وهو الذى يعرف أو يسعى لمعرفة معنى تلك القيم ومغزاها وأصولها.. وفضلا عن ذلك فإن الإنسان هو الكائن الوحيد الذى يتمتع بالذاكرة والخيال. فبينما تعيش أرقى الحيوانات فى الحاضر وحده، وليس لديها تصورات خاصة لمستقبلها، يعيش هو فى الحاضر وكذلك فى الماضى والمستقبل، فنراه يستعد ويجهز لمستقبله، ولكن على هدى خبراته الماضية، فيتصرف وفقا لحكم مأثورة، وينفذ خططا مدروسة، حتى إنه يستعد لأزمنة لا يمكن له أن يعيش ليراها، حتى إنه يستعد ويتهيأ، سواء بثقة وهدوء أو بهلع وخوف، لكل ما هو مطلوب للحظة موته، فكثيرون قد يجهزون أكفانهم بعد أن يبنوا قبورهم، أما الحيوان فيعرف الموت مرة واحدة، بل يمكن القول إنه لا يعرف الموت على حقيقته، بقدر ما أن الموت يصادفه فقط حينما يموت. وربما كان الحيوان يخاف كالإنسان، غير أن الخوف الحيوانى يبقى غريزيا، أى على الطعام أو على الحياة خشية الجوع أو الافتراس من الغير، وهو خوف يشاركه فيه الإنسان، لكنه يزيد عليه خوفا نبيلا على الغير، وخوفا عميقا من الله عندما يرتكب إثما أو خطأ بفعل حضور ضميره. وقد يميل ذكر الحيوان إلى الأنثى، غير أنه لا يستطيع أن يحب، لأن ميله انعكاس مباشر لغريزته التلقائية أو سلوكه الجنسى البدائى بطبيعته، أما الحب الإنسانى، الحقيقى بالطبع، فله بعد جوانى عميق وشفاف يكاد يشبه تجربة صوفية باطنية هائلة، تتجه نحو آخر بعينه، مفرد ومتميز ومُلهم، وليس إلى أى كائن آخر يجسد النوع الإنسانى وفقط. وقد يقلق الحيوان، خصوصا الأكثر تطورا من الناحية السيكولوجية، ولكن قلقه ليس إلا شعورا مصاحبا للخوف على «الراهن» سواء على الغذاء المستهلك بسرعة، أو الحياة المهددة بشدة، أو البيئة التى قد تزداد قسوة، وليس ذلك القلق الوجودى الناجم عن هواجس الإنسان إزاء «المجهول» الذى لا يعرف كنهه، و«المصير» البعيد الذى لا يدرك سره. وانعكاسا لوعيه الفائق هذا يواجه الإنسان شعورا بالألم، ينبع من مصادر عدة، يأتى على رأسها خوفه من الفناء أو الموت الذى ينهش وجوده كاملا، أو من شعوره بالاغتراب نتيجة تنامى النزعة النسبية وغياب اليقين، أو من توجسه من الوقوع فى الخطيئة ورغبته الحارقة فى تحقيق الخلاص من الإثم، أو من كفاحه المضنى لبلوغ المعرفة الحق، وشعوره بالمسؤولية عنها. وربما لذلك يقول الفيلسوف الألمانى باول تيليش، أحد أبرز الوجودية المؤمنة «البروتستانتية»، إن بؤس الإنسان كامن فى الطابع المتناثر لحياته ومعرفته. كما أن عظمته تكمن فى قدرته على إدراك هذا التناثر، حيث الإنسان قادر على أن يلغز وأن يسأل وأن يتجاوز الشذرات بحثا عن المعنى الكامل. وحتى لو كان الإنسان خاضعا مع كل الكائنات لقانون العبث، فإنه وحده الأكثر وعيا بذلك القانون، والأكثر إدراكا لحقيقة أن هناك معنى ما يكمن وراء العبث.. ولذا سيظل الإنسان كائنا قلقا بقدر ما إنه متسامٍ.