القاهرة مدينتنا التى نحبها.نفرح معها ونحزن لها.نأنس بها ونخاف عليها ,وأحيانا منها.تحتجب علينا ملامحها المتراكمة,أحيانا, ونضيع فى جديدها,أحيانا أخرى. القاهرة ركام أزمنة وعصور ومدن.وحتى اليوم يتوه فيها ولا يدركها بكاملها من يعيش فيها فلكل منطقة منها ولكل حى تاريخ وربما تقاليد خاصة.ضرب الإهمال بقسوة القاهرة التاريخية من الفسطاط وحتى قاهرة المماليك وقرافاتها الممتدة التى ينام تحت ترابها خلفاء وملوك وسلاطين وصحابة وعلماء وشعراء ورحالة وشخصيات لها بصماتها عبر التاريخ الممتد.تاريخ متراكم منذ أول سلالات الفراعنة حتى الرومان والفرس والأقباط والمسلمين والدول التى تعاقبت عليها من أجناس مختلفة من المماليك الأكراد والشراكسة والأتراك إلى الفاطميين والمغاربة والعثمانيين والفرنسيين والإنجليز وغيرهم.ومن يزور مصر القديمة يجد الجدران تنطق بمكنوناتها من جامع عمرو بن العاص وكنائس مارى جرجس والكنيسة المعلقة والمعبد اليهودى والمتحف القبطى حتى جامع السيدة نفيسة وسور مجرى العيون ومقابر المقطم وقبر ابن الفارض وخان الخليلى والحسين وشارع المعز والأزهر والدراسة وقصر الغورى والغورية والأزبكية وغيرها.
وهناك قاهرة الزمن الأوروبى الحديث من جاردن سيتى إلى الزمالك ووسط البلد ومصر الجديدة والمعادى.عمارات غوثية الملام وبعضها من زمن الباروك مع قصور الباشاوات القديمة والفترة الملكية لسلالة الألبانى محمد على من تاريخ مصر.
ثم هنالك قاهرة ما بعد الثورة لعام 1952,بعماراتها المسلحة والأبنية الشعبية العملية الشبيهة بالطراز السوفييتى للمدن العمالية والتى تفتقر إلى الجمال والفن ورفاهية المعمار,وعمارات العشوائيات التى بدأ إزدهارها فى زمن السادات ,ويليها أحياء المدن الجديدة والكومباوندات من زمن مبارك التى إمتدت بالقاهرة إلى الحزام الأخضر فى ستة أكتوبر وعلى طريق جسر السويس مثل الرحاب ومدينتى ودريم والأشجار وبيفرلى هيلز وغيرها,وإمتدت على طول طريق القاهرة-الإسكندرية الصحراوى لتعزل سكانها عن وسط البلد والقاهرة القديمة والعشوائيات صانعة أخلاقا جديدة تحاكى النموذج الأمريكى لنمط حياة سكان الضواحى فيها ولكن بنسخة مصرية.
كتابان قرأتهما فى الآونة الأخيرة عن القاهرة.الأول هو ملامح القاهرة فى ألف سنة لجمال الغيطانى وهو عنوان طموح لا يتفق مع تواضع فحوى الكتاب.فالكتاب عبارة عن مقالات خفيفة وممتعة تتناول مقاهى القاهرة ونجيب محفوظ وبعض الروايات عن أحيائها بشكل مبتسر.ولكن يذكر للغيطانى ولعه بتاريخ ومعمار وآثار مصر القديمة والمملوكية بشكل خاص إلى درجة تقديم برامج تليفزيونية شبه وثائقية عنها يسرد فيها الكثير.ولعل نجيب محفوظ أكثر من حفظ لنا رائحة قاهرة الأربعينيات والخمسينيات فى رواياته وعناوين كتبه التى أخلصت لمصر القديمة التى أحبها والحى الذى تربى فيه فى الحسين:الجمالية وقصر الشوق وبين القصرين والسكرية وغيرها من رواياته .
أما الكتاب الذى إستمتعت بقراءته حقا وجسد تاريخ القاهرة الإسلامى الطويل أمام وجدانى فهو كتاب سيرة القاهرة للإنجليزى ستانلى لين بول والصادر فى طبعته الأولى فى عام 1900 مترجما إلى العربية,أما طبعته الأخيرة فقد صدرت فى عام 2012 عن الهيئة المصرية للكتاب وقد ترجمه ثلاثة مترجمين هم حسن إبراهيم حسن وعلى إبراهيم حسن وإدوارد حليم بلغة سلسة وممتعة ودقيقة.ويصدر المؤلف كتابه بقوله:»من لم ير القاهرة لم ير الدنيا.فأرضها تبر ونيلها سحر ونساؤها حوارى الجنة فى بريق عيونهن ودورها قصور ونسيمها عليل كعطر الندى ينعش القلب وكيف لا تكون القاهرة كذلك وهى أم الدنيا؟!».
ويصف الكتاب نشاة القاهرة وحكامها وناسها ومعمارها منذ الفتح العربى وحتى نشأة الدولة العثمانية.ويصف أزمنة إزدهارها,وأزمنة إنحطاطها وغزو المغول والصليبيين والأتراك لها وصراع الأجناس المختلفة على حكمها.ويشهد القارىء أزمنة مريرة مرت عاى القاهرة جاع فيها الناس وظلموا وإضطهدوا ومن المجاعة العظمى التى أكل الناس فيها بعضهم بعضا.كما يتحدث عن الأقباط وحرق الكنائس والإضطهاد الذى تعرضوا له وإنتصارهم لفكرة الوطن مصر وتلك المناوشات التى كانت تنشأ من وقت لآخر بسبب التعصب.ويصف حرائق وزلازل وكوارث أودت بحياة كثير من البشر ودمرت العمران والكتب والمخطوطات والآثار.
غير أن من يتأمل القاهرة وتاريخها الطويل يتأكد من أنها مدينة تجدد نفسها عبر الزمن وتخرج من المحن بميراث يمتد ويعتمد على الشخصية المصرية المبدعة منذ أول التاريخ حتى يومنا هذا.