كان لنا لقاء معها فى أعقاب صدور كتابها السابق Egypt.s culture wars «الحروب الثقافية فى مصر»، ودار آنذاك حديث شيّق حول كواليس الصراع الثقافى فى مصر الذى لم تتناوله من باب «النميمة» وإنما من باب التحليل العلمى الرصين الذى شغلها بوصفها أستاذة جامعية وناقدة قضت سنوات عمرها فى عشق الأدب ودراسته، والحديث هنا عن الدكتورة سامية محرز التى أذكر أنها تحدثت فى هذا الوقت بشغف عن مشروع كان يؤرقها وتستعد لإصداره باللغتين الإنجليزية والعربية وهو «أطلس القاهرة الأدبى: مائة عام فى شوارع القاهرة». صدر «أطلس» سامية محرز أولا عن قسم النشر بالجامعة الأمريكية بالإنجليزية The literary Atlas of Cairo، وتلته الترجمة العربية عن دار «الشروق» أخيرا، وبغض النظر عن اللغة التى تفضلها لقراءة هذا العمل الضخم، فإنك فى الحالتين ستكتشف أنك خضت تجربة جديدة لك فى مدينة كنت تحسب أنك تعرفها جيدا، تجربة تتحول فيها إلى سائح نهم تكسوه ملامح الدهشة ويحمل بين يديه «أطلس» أم المدن القاهرة مهتديا به إلى شوارع مدينة مركبة تختلط بها الأزمان والأمكنة، الحداثة والتاريخ، الكزموبوليتية والعشوائية، تحير فى هذا الالتباس بين القاهرة الواقعية والقاهرة المتخيلة كما تناولها الأدب.
العنوان.. وسط البلد
«عبر اختيار متأنٍ وجمع لضروب إعادة بناء مدينة القاهرة وتمثيلها فى الأعمال الأدبية خلال القرن العشرين، يقدم أطلس القاهرة الأدبى طوبوغرافيا أدبية متضافرة لتاريخ المدينة الاجتماعى والثقافى والسياسى والمدينى من خلال حوالى مائة عمل لكتّاب مصريين وعرب يمثلون أجيالا عدة من الرجال والنساء والمسلمين والأقباط واليهود من مواطنى هذه الحضارة المعولمة ومحبيها الذين يكتبون عنها بالعربية والانجليزية والفرنسية» تتحدث هكذا محرز فى مقدمة كتابها الذى يجمع بين دفتيه أسماء لم يجمعها زمن واحد وإن تنفسوا على الأرض ذاتها، وعبّر كل فى زمانه عن القاهرة التى انفعل بها، وتضرب محرز مثلا بوسط القاهرة وتحديدا مقر الجامعة الأمريكية القديم بميدان التحرير الذى برز فى كتابات هؤلاء وتراه بمنظور مختلف فى كل مرة «أعمال إحسان عبدالقدوس وإدوارد سعيد ورضوى عاشور وأهداف سويف وأحمد العايدى ومحمود الوردانى وياسر عبداللطيف ومكاوى سعيد ومى خالد ومريد البرغوثى من بين أعمال أخرى ترسم جميعا خارطة منطقة وسط البلد فى إشارة إلى الجامعة الأمريكية فى القاهرة والتاريخ الذى أسهمت فى صنعه».
من زقاق المدق إلى هليوبولس
تتحول القاهرة، التى حتما خلّفت أقدامك آثارا على أرضها، مع التقدم فى صفحات كتاب محرز إلى مدينة أخرى تماما، أو بالأحرى مجموعة من المدن التى لا تعرفها، ففى الوقت الذى تأذن فيه الشمس بالمغيب على «زقاق مدق» نجيب محفوظ، تشرق على شارع طلعت حرب بمحاله وزحامه فى زمان آخر فى «شرف» صنع الله إبراهيم، وفى الوقت الذى تفوح فيه رائحة المحال وجلود الأحذية من شارع الشواربى فى «سارق الفرح» لخيرى شلبى تتسرب إلى أنفك روائح عبقة من حى الغورية التى غمرت «أوان القطاف» لمحمود الوردانى، تلتقى البارون صاحب القصر فى «هليوبولس» مى التلمسانى، وتستمع لحوار بين جمال عبدالناصر وعمال إحدى المصانع فى حلوان فى «لصوص متقاعدون» لحمدى أبوجليل.
وأنت فى غمرة هذا الثراء المكانى والأدبى تتحسس ملامح «الجغرافيا الأدبية» التى استعارت محرز رؤية فرانكو موريتى لها فى عمله الملهم «أطلس الرواية الأوروبية 1800 1900» الذى اعتبر أن تلك الجغرافيا الأدبية يمكنها أن «تغّير الطريقة التى نقرأ بها الروايات»، وتضيف المؤلفة أنه يمكنها أيضا أن «تغير الطريقة التى نقرأ بها الفضاء الذى برزت فيه هذه الروايات إلى الوجود» وتحاول فى فصل الكتاب الثانى «فضاءات عامة» أن تتبع معالم القاهرة، ذات الدلالات التاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسية المختلفة، باعتبارها معالم متحولة تتسع باتساع «الفضاء المدينى» لتبتدع علامات مدينية جديدة تشهد على تحولاتها المدهشة.
من الأهرامات إلى المول التجارى
«يعيد تمثيل الأهرامات الصوفى والغامض لدى جمال الغيطانى التقاط ماضيها البعيد فضلا عن عظمتها وغموضها الأبديين فى لغة أدبية قديمة متعمدة تقف إزاء واقعها الحالى حيث تحيط بها المدينة بل تحاصرها وتقزمها بتوسعها الذى لا نهاية له، وتقدم قراءة صنع الله إبراهيم للقلعة التاريخ المتراكم لهذا المجتمع المعمارى وتجعله استعارة لتاريخ مصر الذى طالما تأرجح بين المقاومة والاستبداد، أما محمد الفخرانى فيؤنسن تمثال الملك رمسيس الضخم «صاحب الميدان» الذى يقتلع ويحبس فى متحف مخلفا وراءه صداقات متخيلة مع المهمشين القاهريين الذين عاشوا عند قاعدته وأقاموا معه كثيرا من العلاقات الحميمة، وتتقدم مؤلفة الكتاب بالزمن إلى الأمام. وننتقل من الأهرامات القديمة إلى المول ما بعد الحديث الذى يغدو الموضع الرمزى لأعراف المدينة الاجتماعية الجديدة والمتنازعة: المول بوصفه مأوى للغفلية وحرية العلاقات الإنسانية فى عمل أحمد العايدى «أن تكون عباس العبد»، وكذلك بوصفه كابوسا تاريخيا مشوها للمدينة فى عمل محمود الوردانى «موسيقى المول» وبينما نتنقل بين هذه العلامات المتعايشة فإننا نشهد تشكيلة من التفاعلات الاجتماعية ونتعلم عددا لا نهائيا من اللغات التى نقرأ بها المدينة».
ينتقل بك الكتاب من الفضاءات العامة إلى فضاءات أخرى «حميمة» فى الفصل الثالث وهو أكثر فصول الكتاب تعبيرا عن خصوصية العلاقات الإنسانية داخل القاهرة المكدسة، وتجسيدا للعوالم الداخلية المصغرة للمدينة،وضمت محرز إليه نصوصا مختارة وصفتها بأنها «مستودع لا يقدر بثمن للحيوات والتفاعلات الأسرية: العلاقات العائلية البرجوازية الحصرية،التقسيمات الجنوسية، الطقوس الأسرية، فضلا عن انزياح الانتماءات وضروب الحميمية الإنسانية فى عالم الفقراء المدنيين السفلى، والتجارب الفردية اليومية الجسورة فى مواجهة قهر القاهرة، التى توضع جميعا على الخارطة الأدبية للمدينة الكبرى بعيدا عن الإحصائيات والأرقام الباردة».
حنطور وميكروباص
يحيلك الكتاب لتأمل وسائل المواصلات باعتبارها «عوالم بحد ذاتها» ووسائل تحدد علاقة القاهريين بمدينتهم وتصورهم لها، يبرز الكتاب وسائل النقل التقليدية المعاصرة لدى أدب خالد الخميسى فى «تاكسى» والميكروباص عند أحمد العايدى فى «أن تكون عباس العبد»، والأتوبيس عند منى البرنس فى «النهاردة هدلع نفسى»، وتعود بآلة الزمن للوراء عند «أديب» طه حسين حيث «يصف الراوى الأعمى حى الأزهر وهو داخل عربة حنطور تجرها الخيول على نحو يغدو فيه الخارج نوعا من المشهد، أو المسرح الهزلى وكلما ضاقت الأزقة وعلت الأصوات وزادت الكثافة يحس شدة الهياج والتوتر والعنف التى تظل بالنسبة له هو الخارجى المراقب ممتعة وفاتنة»، وتستشهد أيضا بالأستاذة الجامعية فى عمل «ن» لسحر الموجى التى كانت تراقب مظاهرات الطلاب فى جامعة القاهرة من خصوصية سيارتها من خلف نوافذها المغلقة وهى تصغى إلى شريط لكوكب الشرق أم كلثوم.
سامية محرز التى أهدت هذا الكتاب إلى «مدينة القاهرة وأدبائها» أعدت فى نهاية كتابها، الذى يقع فى 434 صفحة، فهرسا يضم نبذة عن الأدباء الذين سرد الكتاب نصوصهم، وكان من المتوقع فى الأصل أن يكون «أطلس القاهرة الأدبى» مجلدا واحدا، إلا أنه، وحسب محرز، وجدت أن المادة التى تم جمعها لا يمكن عمليا نشرها فى مجلد واحد، فتم الاتفاق مع الناشرين على أن يتم نشره على جزءين الأول هو الذى قمنا بعرضه والثانى سيحمل اسم «حياة القاهرة الأدبية: مائة عام فى قلب المدينة» الذى من المنتظر أن يضم 7 فصول ينبع كل منها من مشاغل النصوص الأدبية ذاتها.