كان يجب ان نحتفل هذه الأيام بالذكرى الثامنة والعشرين بعد المائة لميلاد الشاعر الكبير المجدد عبد الرحمن شكرى الذى ولد فى بورسعيد فى الثانى عشر من أكتوبر 1886، ورحل فى الخامس عشر من ديسمبر 1958 بمدينة الإسكندرية، بعد ست سنوات من إصابته بشلل نصفى فى الجانب الأيمن أرغمه على ترك الكتابة، لكن إصراره على الحفاظ على التواصل مع مكاتبيه دفعه إلى تدريب يسراه على الكتابة. هو شاعر وناقد مظلوم، لم ينل حقه، وربما لا يكاد يذكرإلا إذا ذُكِر العقاد والمازنى، و»جماعة الديوان»، رغم أثره الكبير فى الأدب العربى المعاصر، فهو أول الثلاثة انطلاقا فى مسيرة التجديد فى الأدب، خاصة فى آرائه بشأن التجربة الشعرية والوحدة العضوية، وتنوع القافية، وما قدمه من بحوث فى التحليل النفسى. أقر له العقاد والمازنى بالفضل واعترفا بأستاذيته وريادته وسبقه فى الإبداع وسعة الاطلاع والتجديد شاعرا والتفرد ناقدا. كان شكرى ذا نفس شديدة الحساسية,مؤمنا بالمثل, حالما ببناء الأمة على أسس من المعرفة والأخلاق ، صريحا فى إبداء الرأى، حادا أحيانا ، فعل ذلك مع تلاميذه - وكان معلما- ومع مريديه من شباب الشعراء آملا أن تفيدهم ملاحظاته وتصقل مواهبهم, لكن أكثرهم تبرم منه وانصرف عنه ، وفعل ذلك فى اتهامه المازنى - وهو صديقه وإلفه- بالسطو على قصائد لشيلى وهينى وهود ولويل وولر ، والسطو على مقالة الكاتب الانجليزى أديسون «تناسخ الأرواح» كاملة ، وإن غلف اتهامه بثوب العتاب .. لكن المازنى اتهمه بالجنون والاضطراب النفسى ، وكان ردا عنيفا وقاسيا لم تحتمله نفس شكرى بالغة الحساسية، فلم يقبل اعتذاره من بعد واعترافه بأستاذيته قائلا:«لست أستاذا لأحد»، لكنه سرعان ما تسامى على آلامه وغفر له، وأنشأ قصيدة سماها «بعد الإخاء والعداء»، قال العقاد إنها قيلت فى المازنى ووصفها بأنها من أروع قصائد الأدب العربى. وعقب رحيله كتب العقاد عدة مقالات يشيد فيها بأثره الريادى، حيث قال إنه عرفه سنة 1914 فلم يعرف قبله ولا بعده شاعرا ولا كاتبا أوسع اطلاعا على أدب اللغتين العربية والإنجليزية «وقد كان مع سعة اطلاعه صادق الملاحظة، نافذ الفطنة،حسن التخيل، سريع التمييز...لا يكلفه نقد الأدب غير نظرة فى الصفحة أو الصفحات يلقى بعدها الكتاب وقد وزنه وزنا لا يتأتى لغيره فى الجلسات الطوال» (الهلال أول فبراير 1959). الشاعر المجدد بدت دلائل نبوغ شكرى وشاعريته مبكرا، إذ قرض الشعرونشر قصائده وهو فى الرابعةعشرة، ثم نشر ديوانه الأول (ضوء الفجر) عام 1909وكانت نزعته التجديدية حاسمة منذ البداية فلفت الأنظار إليه ونال كثيرا من التقدير حتى بايعه شاعر النيل حافظ إبراهيم على الريادة بقوله: لقد بايعت قبل الناس شكرى وزكيت الشهادة باعترافى ووقع صاحب «الرسالة» أحمد حسن الزيات مقالاته التى لم يشأ شكرى أن يوقعها باسمه صريحا ترفعا عن أن يكون طالب شهرة بعبارة «أحد أساطين الأدب الحديث»، وهى دليل على مكانة شكرى بين معاصريه. وفى كتابه «النقد والنقاد المعاصرون» قال د.مندور إن شكرى هو«شاعرالاستبطان الذاتى»، ورائد التجديد الشعرى الذى جمع فى شعره بين التيارين «العاطفى الشاكى المتمرد» الذى انفرد به المازنى، و«الفكرى العقلانى» الذى انفرد به العقاد، لافتا إلى أن كلا من صاحبيه كأنه أخذ منه التيار الذى تميز به، وهى إيماءة دالة على ريادته وسبقه. وكما يقول فاروق شوشة فى مقدمته لديوانه :«كان شكرى رائدا...فى طليعة المبادرين إلى تحرير الشعر من الأغراض القديمة... فافتنّ فى أوزانه... كما كان له الفضل فى أن يكون أول من يثور على القافية...أما عن الأسلوب اللغوى فلشكرى طريقته الخاصة فى النظم والتعبير». وكان شكرى ذا نفس تميل إلى العزلة، لكنها عزلة المفكر المتفلسف المولع باستقصاء أبعاد النفس وأحوالها، ولعله لذلك أطلق عليه شوشة وصف «شاعر النفس الإنسانية». كما كان زاهدا فى الشهرة ، ولكنه كان أيضا واعيا تماما برؤيته التجديدية فى عالم الشعر، ومن عجب أنه حدس بغبنه فقال وصدق: أألقى الموت لم أنبه بشعرى ولم يعلم جميع الناس أمرى؟ الناقد الفذ لشكرى رؤى أدبية وضعها فى مقدمات أجزاء ديوانه،هى أفكار رائدة بمقياس زمانها، وإن أصبحت اليوم من المسلمات فى عالم الأدب والنقد، وقد بلورها مندور فى نقاط محددة بعبارات مركزة فى كتابه «النقد والنقاد المعاصرون»، ومن هذه الرؤى أن الشاعر العبقرى يتمتع بشره عقلى يجعله راغبا فى أن يفكر كل فكر ويحس كل إحساس، وأن أجلّ الشعر ما يخلو من التشبيهات البعيدة والمغالطات المنطقية. وإذا كان الدارسون والنقاد قد زاد اهتمامهم بشعره بعد موته وقامت حوله دراسات علمية وأكاديمية فى محاولة لإنصافه وتقدير عطائه، (ولعل وآخرها الرسالة التى تقدمت بها الباحثة دعاء فتحى إلى كلية البنات جامعة عين شمس عن «بلاغة القص فى شعر شكرى» ، وعنها نالت درجة الدكتوراه ، وتناولت فيها من الوسائل الإبداعية فى شعره «الصورة الفنية الجزئية والكلية، وتحولات الأداء وبعض محاور السرد كالحوار والزمان والمكان...) - فإن تقدير شكرى ناقدا وشاعرا والوعى بقيمته ما زالا دون ما يستحق عن جدارة. آثاره: له ديوان من ثمانية أجزاء هى:ضوء الفجر،ولآلئ الأفكار، وأناشيد الصبا، وزهر الربيع، والخطرات، والأفنان، وأزهار الخريف، و يحوى الجزء الثامن القصائد التى نشرت متفرقة فى الصحف والمجلات ونشر عام 1960. وله من الأعمال النثرية:«الثمرات» و«الاعترافات» و«حديث إبليس» و«قصة الحلاق المجنون» و«الصحائف» و«دراسات نفسية» و«نظرات فى النفس والحياة». وفى هذا الكتاب الأخير جمع خلاصة أفكار بعض أعلام الفكر الإنسانى فى الغرب والشرق ومنهم : ليوباردى، وشوبنهاور،ومارسيل بروست،وأناتول فرانس وبلزاك و جوته وجورج إليوت وهازلت و ابن المقفع وغيرهم.. مع تعليقات قيمة. ومن إصداراته النقدية أيضا «فى الشعر العباسى»و«بين القديم والجديد»و«مقالات وأبحاث فى النقد والأدب».