قد تكون "ثورة المظلات" الحالية فى هونج كونج أكبر تحد سياسى تشهده الصين منذ أحداث الحركة الديمقراطية أو أحداث ميدان "تيان آن مين" أو ميدان السلام السماوى الشهيرة عام 1989. وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة أسابيع على هذه المظاهرات، وعلى الرغم من أن هناك العديد من أوجه الشبه بين اثنتين من أكبر الاحتجاجات فى تاريخ الصين، فإنها ليس بالضرورة أن تحل بنفس الطريقة، وليس بالضرورة أيضا أن تكون الأسباب واحدة فى الحدثين. وبالفعل، من الصعب تجاهل أوجه الشبه بين الأحداث التى وقعت فى ربيع بكين قبل 25 عاما وخريف هونج كونج الآن، ففى الحالتين، احتل عشرات الآلاف من المتظاهرين الشوارع والساحات وسط موقع رئيسى فى تحد مباشر للسلطة، وبدأت الحركتان بين الطلاب أولا ، ثم امتدت إلى حملات واسعة النطاق من العصيان المدني، تحت شعار إقرار الديمقراطية. . ولكن الجديد هذه المرة أن ال25 عاما الماضية من تاريخ الصين لم تذهب هباء، فلم تظل المياه راكدة على أراضيها ولم تعد العزلة والجمود والعناد سياستها، وحل محلها الانفتاح سواء السياسى أو الاقتصادى والمرونة فى التفكير والتعامل، كما استطاعت الحكومة الصينية على مر السنين الوقوف فى وجه العاصفة التى هبت عليها إثر موجات الإدانة الدولية ضد أحداث 1989 وغيرها من اتهامات انتهاك حقوق الإنسان، ومنذ ذلك الحين تمكنت تقريبا من محو ما له صلة بهذا الحدث قى ذاكرة شعبها. ومع النمو الاقتصادى واتساع الروابط مع العالم الخارجى وتعاظم قدرة قيادتها على التواصل مع العالم الغربى خلال السنوات ال25 الماضية، لم تعد الذاكرة الغربية كذلك ترغب فى التمسك بالماضي. وفعليا، فحتى هذه اللحظة، ورغم وجود قوات مكافحة الشغب فى شوارع هونج كونج لفترة من الوقت، فإن الرسالة الرئيسية التى ما زالت تعلنها السلطات فى مواجهة المظاهرات هى أنها لا تعتزم اللجوء للعنف أو استخدام السلاح ، بل وبدأت منذ أيام المساعى لعقد مفاوضات بين السلطات وزعماْء المتظاهرين لكى يتسنى للطرفين تقديم بعض التنازلات لإنهاء هذه الأزمة وعودة الحياة لطبيعتها فى واحد من أهم المدن الجاذبة للاستثمار والنمو الاقتصادى فى العالم. وبمعنى آخر، فإن حكومة بكين بلغت مرحلة من النمو لن تجعلها تندفع للمخاطرة بانفعال يتسبب فى القضاء على إنجازات سنوات من العزيمة والصبر والصمود والتى جعلت هونج كونج سادس أكبر أسواق البورصة فى العالم والثانية فى آسيا بعد طوكيو وسادس أكبر سوق لصرف العملات فى العالم. فمنذ عودة الإقليم للحكم الصينى فى عام 1997 ما زالت حدوده مفتوحة أمام المستثمرين دون أى عوائق، وما زال يتمتع بلمسة الحياة الغربية بين شوارعها، فلماذا يجب أن يقع اللوم هذه المرة على الحكومة الصينية؟ هذا من جانب الحكومة، ولكن من جانب المتظاهرين يثور سؤال : فهل بالضرورة أن ما قام به هؤلاء الشباب حتى الآن هو مجرد نموذج آخر من حركة الشباب التى تبحث عن التغيير والديمقراطية وتقف فى وجه الاستبداد كما بدأت هذه الحركات مع الربيع العربى وانتشرت لجميع أنحاء العالم؟ وبالطبع ، فإن ما يطالب به المتظاهرون هنا هو تطبيق الديمقراطية، وقد وضعوا لذلك منهجا محددا لاختيار حاكم الإقليم المقبل، بل ووضعوا مهلة أمام الحاكم الحالى لونج شون ينج لتقديم استقالته مقابل إجراء انتخابات حرة على غرار النموذج الغربي. لكن بالنظر للنموذج الغربي، وبالتحديد البريطانى الذى حكم الإقليم ل155 عاما ، فقد تعاقب على إدارته 28 حاكما تم تعيينهم مباشرة من لندن ، أى أنه لم يتم انتخابهم ، ولم يتم الاعتراض عليهم من قبل! وبعد عودة هونج كونج للحكم الصيني، وعلى مدى 17 عاما، شارك الإقليم بشكل فعلى فى العملية السياسية ومسار الحكم ، والآن ، نصف مجلسه التشريعى يتم انتخابه والنصف الآخر يتم اختياره من قبل ما يسمى الدوائر الانتخابية الوظيفية، أما اختيار الرئيس التنفيذى فيكون على أساس أنه من مواطنى الإقليم وتختاره لجنة تضم أكثر من 1200 شخص آخرين من مواطنيها. علاوة على ذلك، فقد وضعت بكين الآن خطة للناخبين لانتخاب الرئيس التنفيذى المقبل مباشرة، وليس عن طريق اللجنة، فى عام 2017. أى أن القول بأن مطالب المتظاهرين بالإصلاح السياسى غير منطقية، وربما يكون مقنعا أن مطالبهم تبدو ذات دوافع اقتصادية، فهونج كونج، شأنها شأن دول كثيرة، تمر بفترة صعبة من التراجع الاقتصادى والاجتماعى مع تزايد المنافسة العالمية واتجاه الاستثمار لأسواق أخرى بجانبها ، إضافة إلى ارتفاع تكاليف المعيشة واتساع فجوة الثروة. وأظهرت دراسات عديدة أجريت فى هونج كونج بالفعل أن مصدر قلق 80% من أبناء الإقليم الرئيسى هو تكاليف المعيشة والقضايا الاقتصادية، وليست الأوضاع السياسية، وهذا يثبت وجود حالة من السخط العام حقا، ولكنه فى طبيعته سخط اقتصادى الدوافع، ويميل إلى المطالبة بالمساواة، ويختلف جوهريا عما يتم تصويره من قبل المتظاهرين على أنه سخط سياسي. وحتى القول بوجود دوافع اقتصادية أمر يثير التساؤل فى حد ذاته إذا ما قورن الوضع الاقتصادى فى هونج كونج بأوضاع دول أخري، فمستقبل هونج كونج لا يبدو قاتما، والاقتصاد مزدهر إلى حد كبير، وسيادة القانون مازالت سائدة، والموارد وفيرة ويمكن أن توجه وتخصص فى الطرق المناسبة لمعالجة التحديات الهيكلية، كما أن غالبية مواطنيها تريد حل المشكلات وليس تعقيدها، والأهم من ذلك كله، أن سكان الإقليم ما زالوا يرون أنهم جزء لا يتجزأ من الصين النشطة اقتصاديا والمستقرة سياسيا. لذا، فلا يبدو ربيع هونج كونج مقنعا حتى الآن، سواء كانت دوافع المتظاهرين سياسية أو اقتصادية.