فى كتابه المُتْرَع بالثراء والرمزية (الفتوحات المكِّية) يقرر الشيخ الأكبر «محيى الدين بن عربي» أن الذات المسلمة الحقّة: لا يمكن أن تكون كذلك حين يتوقف نموها الوجدانى الباطنى عن الترقِّى والصعود والارتفاع، تُكابد فى سيرها العَثَرات، وتَعْتلى - فى طريقها - الرّبَوَات، حتى تصل إلى جناب الحق، أو بعبارته الرمزية المكثَّفة: لابد لها-فى علاقتها بالكون وخالق الكون - من «معراج روحي» تَرْقى به من حالٍ وجدانية نازِلةَ: إلى حالٍ أخرى صاعدة هى أكثر رفعة وبهاءً، وأبعد منالا، وبدون ذلك تصبح تلك الذات:رهينةً للجمود والتحجُّر، وقرينةً للسُّبَات والمَوَات، حيث تخمد جذوة الحيوية فى أوصالها، ويعجز كيانها عن الارتقاء الفعَّال، فينتهى بها الحال إلى سكون هو أقرب إلى سكونية الجمادات الخامدة!! بهذا «المعراج الرُّوحي» تتسع الآفاق اللامتناهية للذات البشرية، فتضحى الكائنات كلها لدى تلك الذات نابضةً بإكسيرالحياة، تَشْدُو لخالقها من غير لسان، وتَسجد من غير كيان، كما تُصبح أبعاد الكون لديها أكثر اتساعًا ورحابة، متجاوزةً بُعْدَي: الزمان والمكان الفيزيقيين، ذَيْنِك البُعدين اللذين يُرَيَان بعين الحس وحدها، بينما تراهما تلك الذات الحية أيضًا بعين الجمال والحب، والرُّوح والسكينة، فتمتلك بذلك ناصية الكون بأسره، بأبعاده المنظورة وغير المنظورة. لو أن هذه النظرة الشفيفة المُرْهفة قد امتزجت بصورة الإسلام فى عصورنا الراهنة تلك العصور التى اصطبغت بقيم المادة - من فوقها ومن أسفلَ منها- لَكَان لها فعل السِّحْر فى حنايا النفوس الظامئة إلى الحق، والتوّاقة إلى الأمن والعدل، ولكانت بَلْسَمًا لِكَثيرٍ من أدواء العصر وشكاياته، ولَتلَمَّست طريقها إلى الأفئدة والعقول، تنير حُلكَة الظُّلمة وسوادها البهيم!! لو أن هذه النظرة الشفيفة المُرْهفة قد امتزجت بصورة الإسلام فى عصورنا هذه: لما وَجَدْتَ من المسلمين إلا قومًا تسكن المَرْحمة منهم حنايا الصدور، يَصفحون الصفح الجميل، ويألمون لأنَّات الثكالي، وآلام المستضعفين، ويرتفعون فوق سخائم الكراهية، وسواد الحقد والفظاظة، فلا يرون فى بنى الإنسان فى كل مكان إلا قلوبًا تهفو إلى جمال الحق، وتستروح بهاء العدل، وتتوق إلى القيم العليا، دون عنف مقيت، ولا سَوَاد كريه، ولا دِماء تُراق، أو أشلاء تتمزق، أو رؤوس تُقَطَّع!! بيد أن هذه الرؤية الشفيفة المُرْهفة التى تمتزج فيها الشاعرية بالحكمة وياللأسف قد انقلبت فى عصرنا الراهن من الضد إلى الضد، بل من النقيض إلى النقيض..فأين هِيَ من ذلك التصوّر البئيس الذى خُيِّل لأصحابه أن «الإسلام» بشموله وعظمته ورحمته قد انزوى فى «شهوة الاستئثار بالسلطة»، وانحصر فى «القفز» على أَزِمِّة الحكم، فأمسى «الإسلام» - لدى هؤلاء النفر حبيس «لُعْبَة السياسة» حيث المناورات والألاعيب، وذهبت آفاقه العليا، ومراميه الرفيعة أدراج الرياح؟!. أين تلك الرؤية الشفيفة المُرْهفة من أدبياتهم السوداء التى انشق العالم بمقتضاها انشقاقًا قاطعًا إلى فسطاطين:»فسطاط» الإيمان الذى لا يَلِجَهُ إلا أولئك النفر، و»فسطاط» الكفر الجاهلى الذى لا مناص من إزاحته والخلاص منه، ثم انطلق أصحابها - بمقتضى لُعْبَة السياسة- يعيثون فى الوطن تخريبًا ودماءً وأشلاءً، بعد أن ساقوا شباب الأمة الغَرير إلى أتون العداوة، وجحيم البغضاء، ثم تركوهم ينفثون حميم العنف وجحيم التدمير: رغبة فى شهوة الحكم، ولهفة على كراسى السلطة، وتَلَمُّظًّا إلى مقاعد السلطان، وكأنه لم يَتَبَقَّ من «الإسلام» كله الرُّوح والقيم والمبادئ سوى «سلطة» تُقْتَنَص، و»حكمٍ» يُعْتَلَي، و»سلطانٍ»تهون فى سبيله الأرواح، وترخص الدماء! ولو أن أبصار تلك الشبيبة الغَريرة قد فُتِّحَت على مَجَالِى الجمال السارى فى «روح» الكون إنصاتًا إلى التسابيح التى يصدح بها هذا الوجود صباحُه ومساؤُه : لاستبدلوا بالخراب عمرانًا، وبالهدم: بناءً، وبالهتاف الزاعق: انكبابًا على البحث والدرس، والعمران والتقدّم، والعلم والتحضّر، فتلك هى «روح» الإسلام ولبابه وجوهره!! ثم ثانية أين تلك الرؤية الشفيفة المُرْهفة»لمعراج الرُّوح» من أولئك الذين يتمسَّحون «بالسلفية» ويدَّعون وراثتها، ثم يتخذونها ستارًا زائفًا لما طُبِعُوا عليه من التحجِّر والغلظة وأحادية الرؤية، فتراهم لا يكادون يذكرون شيئا مما تحفل به الآيات الكريمات من لفت الأنظار إلى بديع صنع الله تعالى فى الكونجمالاً وحسنًا وروعةٍ واتقانا، ولا تكاد تجد أعينهم وأبصارهم تقع من التراث إلا على مايفهمونه - زورًا وبهتانًا- بأحاسيسهم الغليظة: فهمًا جاسيًا متصلبًا، يوصدون به أبواب التأويل، وينكرون به الجماليات المجازية فى اللغة القرآنية التى أعجزت البلغاء والفصحاء، وبهذه الرؤية المتصلبة: فتحت مصادر تلك السلفية المدَّعاة الباب واسعًا أمام «الشرك»، و»نواقض الإيمان»، واستغرقت اهتمام المسلمين فى الأشكال المستوردة، والمظاهر الجافة، بل إن تلك المصادر قد فَتَّحت بابًا- مُشْرَعًا- اتَّكَأَتَ عليه فيما بعد دَعَاَوَى الإرهاب من كل حَدَب وصوب، وأعنى به ما سُمِّى فى أدبياتهم المتداولة «قتال الطائفة الممتنعة»، والتى تكاد تكون جذوة الشر المستطير الذى أصبح مرتَكَزًا عَقَديًّا لكثير من جماعات العنف قديمًاوحديثًا. ثم - ثالثة- أين تلك النظرة الشفيفة المُرْهفة «لمعراج الرُّوح» من تلك المنظمات الإرهابية ذات الأسماء البغيضة التى انطلقت فى زماننا هذا تهتف زورًا وبهتانًا باسم الإسلام وخلافة الإسلام، ثم يعيث دعاتها فى الأرض تقتيلاً وتمثيلاً، وقطعًا للأعناق وبترًا للرقاب، أمام عين العالم وبصره، دون أن تطرف لهم عين، أو يخفق لهم قلب، بل دون أن يطرأ على ذواتهم المتحجرة مقدار الجُرم الذى جنوه فى حق الإسلام حين تقترن صورته بصورة الدماء والأشلاء، والأعناق والرقاب، بل حين يتحول «الإسلام» بتأثير صنيعهم هذا - فى نظر الكثير إلى «وباء» يجتاح الكون بأسره؟ وماذا تكون «الصورة الذهنية» التى انطبعت فى ذاكرة «أطفال العالم» عن «الإسلام» الذى يدّعون رفع رايته، وإعلاء كلمته؟ ثم ألا يلتفت هؤلاء وأولئك إلى أن ثمة «جهادًا روحيًا» إسلاميًافى اتجاه مختلف ينبغى أن تصعده البشرية إلى آفاق السمو العليا روحًا وعقلاً ووجدانًا،يَحْفِز الإنسانية إلى أن توفِّر لبنيها من الجائعين والعراة والمرضي: لقمة العيش وجرعة الدواء، وما يقيم أوَدَ الحياة ويدفع بها إلى الخلاص من الأنانية الفردية المقيتة التى أثمرتها الحضارة المادية النفعية؟ ثم .. هل ينصت الجميع إلى أن ثمة حاجة إنسانية شديدة الإلحاح إلى «معراج رُوحي» تتطهر به البشرية جمعاء من تلك المادية النفعية الضيقة التى تحولت ببنى الإنسان إلى قطعان شاردة من الذئاب الكاسرة لا تجتمع إلا لمزيد من التقاطع والتنافر؟ ألم يَأْنِ للإنسانية أن تؤوب إلى «معراج روحي» يرقى به البشر من التعامل بمنطق الذئاب إلى منطق «الآدمية» التى جعلها الله تعالى أكرم الكائنات؟؟ ثم أضيف: إن تلك الدعوة إلى هذا «المعراج الرُّوحي»ليست حلمًا طُوبَاوِيًّا مغرقًا فى الخيال، وليست صيحة فى وادٍ سحيق، بل هى تعبير صادق عن قيم الإسلام فى نقائها وصفائها - وما يعقلها إلا العالمون.