فى كل قضية تحتمل تعدد وجهات النظر: يجد المتأملُ نفسَه بين طرفين يقف كلٌّ منهما على النقيض من مُقابِلِه، حيث يقوم كل منهما بنفى الآخر وهدمه هدمًا كاملًا بلا عدل ولا شفاعة، وكيف لا .. وكل منهما لا يرى فى نقيضه بعين السخط إلا سوادًا فوق سوءا، وسوءً فوق سوء، ويفقد الحوار بينهما - يومئذ - مصداقية الحق، وسماحة الإنصاف، وفضيلة الاعتدال!! لقد مرَّ التاريخ الفكرى الإسلامى فى شتى عصوره حيال «فهم» نصوص الكتاب والسنة بطرفين نقيضين: ركب أولهما متن الشّطط فى التمسّك بمنهج الفهم الظاهرى الحَرْفيّ بل الحِسِّى لتلك النصوص الكريمة دون الالتفات إلى أعماقها، ودلالاتها المعرفية والشرعية والبلاغية؛ فإذا بهذا الشطط وقد أدى بأصحابه إلى إغفال «شطر الحسن» فى القرآن الكريم على حد تعبير الزركشي-ذلك الشطر المتمثل فى المجازات والتأويلات، وفى إدراك «عمق» الأحرف والكلمات والدلالات؛ بل إنهم قد جعلوا من أفهامهم الظاهرية تلك: معيارًا تُقاس به صحة الإيمان، وسلامة العبادات، والمعاملات، على نحو تضيق به الأفئدة، وتنفر منه الصدور!! ومن هذا المنطلق الحَرْفِى الضيق: انفتحت فى الفكر الإسلامى بل فى التاريخ الإسلامى ذاته أبواب واسعة من الشر المستطير؛ عبر مسالك ودروب فكرية متعرِّجة: أولها: باب «التكفير» الذى تُرْجِم إلى دماء وأشلاء تحت ظلال الفهم البئيس لقضية الإيمان والكفر، ثم سرعان ما ارتفعت تحت تلك الظلال الداكنة- أَسِنَّةُ الإرهاب تأكل الأخضر واليابس، وتصبغ الإسلام كله دين المرحمة والسكينة بلون الدم القاني، وأَضْحت كلمة «الإسلام» التى كانت مفتاحًا للقلوب والأرواح: مِغلاقًا لها ومدعاة للفزع والرعب؛ ومرتبطة فى الذهنية العامة بالدماء والأشلاء. ثانيها: طغيان «الأشكال» على الأعماق، وغَلبة المظهر على الجوهر، وسطوة القشور الظاهرة، أو «الأشكال والرسوم» على حد تعبير الإمام الغزالى فى (الإحياء) على البواطن المسْتكِنَّة، وقد انعكس هذا فى غلظة العقول وجفاف القلوب، وجلافة التصرفات، وجفاء التعاملات، وذلك أن «الحَرْفيّة فى الفهم» تؤدى فى نهاية المطاف إلى نضوب العواطف، وتيبس المشاعر، وجفاف «الذوقيات»، والتجافى عن الوجدانيات!! ثالثها: أن تلك «الشكلانية» قد اتخذت فى عصورنا الحاضرة منحنى أكثر خطورة، ومسارًا أبعد تأثيرًا، وذلك حين توهمت بعض الاتجاهات الصاخبة فى أيامنا هذه: أن استقامة المجتمع وصلاح حاله ليسا -كما فى التصور الإسلامى الصحيح- رهنًا بإقامة موازين الحق والعدل فى أرجاء الكون، بل انحصرت فى نطاق «الاستئثار» بمقاليد «السلطة»، والاستحواذ على أزمَّة الحكم، والهيمنة على أرائك السلطان!! وهكذا انتهت «الحَرْفيّة» فى فهم النصوص الكريمة من «السياسة الشرعية» القويمة المستقيمة إلى «لُعْبَة السياسة» حيث تَمَّ توظيف تلك النصوص والأحداث المرتبطة بها فى التاريخ الإسلامي: توظيفًا مُغْرِضًا، والالتواء بها عن مقاصدها السامية إلى أن صارت أداة تُسْتخدُم فى غَلبَة اتجاه بعينه: يخلط خلطًا شائهًا بين الدين ذاته بنقائه وصفائه، وبين «لُعْبَة السياسة» وخداعها وأحابيلها!! على طرف النقيض الآخر انتهض الفريق المضاد ، تحت لافتة «التنوير» حينًا، و»الحَدَاثة» وما «بعد الحَدَاثة» حينًا، لكى يروّج على النقيض من الحَرْفيّة لدى الفريق الأول: لِما يُسمّى (القراءات الجديدة للنص القرآني) وفَهْمه فهمًا متحررًا من دلالاته الاصطلاحية التى فَهِمته بها أجيال متتالية متعاقبة من المتكلمين والأصوليين والفقهاء من قبل، وإذا بأحد سَدَنة التنوير وهو يدعو إلى دولة مدنية «لا دين لها» على حد تعبيره الحرفى منذ أعوام مَضَيْن، وكأنِّى به يرى أن «مدنية» الدولة لا تقوم لها قائمة إلا حين تَنْتزع الدين من مكانه ومكانته، والا حين ترفض»حشر الدين فيما هو من شئون دنيانا» على حد تعبيره الحَرْفِّى أخيرًا، مع أن هذا الذى يقوله: افتئات - أى افتئاتٍ- على مصطلح «الدولة المدنية» وتشويه لصورتها فى أعين الناس، كما أنه افتئات بالقدر ذاته على الدين، وجناية عليهما جميعًا، ثم ينقل -فى هذا الصدد- حديثًا صحيحًا يعترف بصحته ويورد سَنَده ثم يُتْبِعَهُ لا فُضَّ فوُه!!- بقوله «لكن فى نفسى شيئًا من مضمونه»!! ثم يردف ذلك بثالثة الأَثَافى - فى جرأة نادرة يُحسَد عليها بأن «الأحكام الفقهية الخاصة بالمرأة لابد من تعديلها وتغييرها لكى يقبلها العصر والتطور الحضاري» !! على حد تعبيره القريب أيضًا. وأقول: ألا يتفطن هؤلاء وأولئك: إلى المقولة العربية الحكيمة وهى أن «الضد يغرى بالضد»، وأن الغلوّ يبعث على مزيد من الغلوّ، فالوطن لا يحتمل مزيدًا من الشرر واللهب؟! ثم أقول: لئن كان ابن حزم الأندلسى صادقًا حين قال فى (طوق الحمامة) «الأضداد أنداد» أى أنهما سواء فى تطرف كلٍّ منهما إلى أقصى الطرف فإنه لمن أصدق الصدق أيضًا أننا فى أشد أزماننا احتياجًا إلى خطاب دينى رشيد نمسك فيه بجمع اليدين على «الحد الوسط» الذى يجمع محاسن الأضداد، وينأى عن مساوئها جميعًا، فلا تُهدَر «قطعيات» الشرع لحساب «ظنيات» العقل، ولا تُهدر أيضًا «يقينيات» العقل لحساب الفهم الحَرْفِّى للنصوص، بل يلتئم من محاسنهما جميعًا سياق»الحد الأوسط» الجامع بينهما فى تضافر وتكامل، فذلك «الحد الأوسط» هو الكفيل وحده بإطفاء سَعِير الفتنة، والإياب بالأمة إلى «الوسط» الحق دون غلوّ أو تقصير، كما أنه الصراط المستقيم الذى يسير بالسفينة إلى بر الأمان، ويوجَّه دفتها إلى ترسيخ ما اهتز من منظومة القيم، وتقويم ما اعْوَّج من أنماط السلوك، فذلك أقوم قيلاً، وأهدى سبيلاً. ثم أقول .. كفانا إشعالاً لضرام الفتنة، وإذكاءً لنيرانها الملتهبة!! لمزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى