سيظل يوم 6 أكتوبر واحدا من تلك الأيام التى تستعصى على ان تطوى فى الاوراق، ليس لأن الجيش المصرى عبر مانع قناة السويس المائي، بهدف تحرير أرضه فى قضية عادلة، ودخول شبه جزيرة سيناء محررا للارض والارادة المصرية، لكن لأن الشعب المصرى كله عبر من فضاء اليأس والنكسة والهزيمة إلى فضاء جديد من الانتصار والزهو. لمعرفة حجم انتصار أكتوبر ومعناه وقيمته وادراك اهميته على الاقل عند الاجيال الجديدة، من المستحسن ان نلقى نظرة على ما قبل أكتوبر، أو على طريقة السينما (فلاش باك)، تلك السينما التى قصرت فى عرض ملحمة أكتوبر كما يليق بها كحدث فارق، فى القرن العشرين. بل ان معرفة دوافع حرب أكتوبر، أحد العناصر التى تكشف عن عظمة و جلال الحدث، وعمق تأثيره فى دوائر عديدة، فقد كانت نكسة عام 1967 بما احدثته من معاناة وإحباط سببا اساسيا فى تحويل الهزيمة إلى طاقة للإبداع على المستوى العسكرى والسياسى والإجتماعي، وان كان تناول حرب أكتوبر فى الحياة الفنية، شابه القصور، الا ان التفسير فيما يبدو ان الانتصار يجعل هذه الطاقة فى حالة استرخاء، أما فى حالة المعاناة والأزمة تتفجر طاقات الإبداع، تحت ضغط دفع الظلم أو دفاعات البقاء والتحدي. فمثلا بيكاسو عندما أنتج لوحة «الجورنيكا» رسم الهزيمة والضرب والقتل والوحشية والدمار ولم يرسم الانتصار؛ ولذلك أرى أنه من الواضح أن النصر لم يولد طاقات إبداعية مثل الهزيمة التى تفجر الطاقات الإبداعية عند المبدعين. يمكن رصد التناول الفنى لحرب اكتوبر فى مستويين اساسيين. المستوى الاول هو الذى قامت به المؤسسة الرسمية العسكرية لتخليد الحدث بفنانين بعينهم او فى الغالب اختيار كوريا بالتحديد للتعبير عن انتصار اكتوبر كما حدث مثلا فى بانوراما اكتوبر و هى مفارقة فى منتهى الغرابة ان يصنع الشعب المصرى انتصارا يبهر العالم و يعبر عنه فنانون كوريون. اما المستوى الثانى فهو تناول حدث الانتصار الذى يعكس فرحة المصريين بالنصر عبر اعمال خالصة كما نرى فى اعمال كل من النحات «جمال السجيني»، « يوسف سيده»، «محمود شكري» و غيرهم . فى تمثال « العبور » لجمال السجينى تعبير عن قمة الحدث و هى لحظة العبور عندما يلوح جسد متين يكسوه ثياب فضفافة يبدو انه لحسناء فى عنفوان الشباب بملامح مصرية صارمة تقود رأس السفينة نحو الحسم بكلتا يديها الممدودتين الى الامام فى حركة تعنى الانطلاق او الوثوب والتحرر فيما جسَد الجنود المصريون و هم يمسكون بسواعدهم القوية مقاليد السفينة التى يمتطون متنها فى حركة تنم التحدى و القوة والعناء العنيد فى شبه مفارقة مع سيولة وسلاسة حركة الجسم الام اى السفينة حيث تلوح ملامح وجه رأس السفينة بثقة تامة فى النفس وسهولة الحركة الدقيقة و العريضة التى لا يمنعها ان توحى بالجمال و الثبوت و تحيطنا بهالة من السلم و السكينة ، سكينة الوطن الذى يحمى ابناءه ببدنه و بعناء ابنائه. جمع الشكل بين مفاتن جسد انسانى نابض و ملامح و خطوط و عناصر سفينة و سواعد فى مزج بصرى متقاطع حينا و متناسق حينا فى ديناميكية و حوار بين الوطن وجنوده. يكسو جسد الشخصية الام ثياب بهيئة شراع، سفينة تنشر قلاعها فى ابحارها بجهد السواعد الوفية حتى الايحاء بالتحليق و الارتفاع، إلى افق جديد الى بر الامان. تحمل الشعب المصرى كله بدون استثناء اعباء نكسة 1967 لكن مدن القناة تحملت النصيب الاكبر من اعباء النكسة فقد اضطر اهالى مدن القناة الثلاث الى مغادرة مدنهم و بيوتهم و شوارعهم و مساكنهم الى اللحاق واللجوء للوادى و هنا يمكن الاشارة الى نصيب المدن التى استضافت المهاجرين من مقاسمة العناء و التكبد فى فترة انصهر فيها الجميع استعدادا لخوض حرب اكتوبر. لقد عبرت «انجى افلاطون» عن حال المهاجرين فى لوحة بليغة عندما اصطفت النساء فى مقدمة لوحتها باعتبارهن بطلات تلك المرحلة. فقد اعطت انجى للنساء فى عنفوان الشباب دور البطولة فى ذلك الظرف فرسمتهن فى الصدارة بينما الجدة فى مكاتفتهن فيما وقف كبار السن من الرجال فى ظهورهن و احتل الاطفال موقع الحجر من المشهد. ان كان هول الفرار الى المجهول على وجوه اغلب شخصيات اللوحة حيث تبدو مثقلة بالهموم بثقل وقع الشمس على وجوه المرأتين اللتين تبدوان على يمين اللوحة، الذى يوافق مصدر النور فى اللوحة، فقد انتصبت فى منتصف اللوحة امرأة فى اشد عنفوانها بصلابة الانسان المعول عليه فى المحنة فى حالة انتظار و ترقب و تحمل . اما اللون الاحمر و الاسود فقد شحنا اللوحة بالعناء فى مواجهة الطبيعة حيث تبدو الاجساد فى حالة انتظار و ليس حركة فتبدو صابرة كالنخيل تحت ثقل الشمس على وجوه المهاجرين. مسحة الحزن النبيل، والشعور بالهم البادى على وجوه النساء فى اللوحة، لم يمنع المرأة من اعادة ترتيب العش الذى تهدد بالهد فكانت بمثابة أحد الجنود المجهولين فى ملحمة اكتوبر. فى الوقت الذى جاء فيه عمل الفنان «محمود شكري» المحاربون من خامة النحاس المسبوك، أبرز ما فيه ما يبدو أنه دروع يتحلى بها ثلاثة اشخاص يشكلون جبهة نراها لأول وهلة، ثلاثة من المحاربين، وكأنهم جيش، والمدهش ان الشخوص عابرة للنوع ومن الصعوبة بمكان أن نحدد بشكل قاطع اذا كانت هذه الشخوص لرجل، او لأمرأة. والعمل يجمع بين السلم والحرب فى آن، بدأ بالسيف رمز الحرب وانتهى بالحمامة، رمز السلام، والمقابلة تلخص مرحلة بالكامل، صراع الانسان من أجل دوافع الوجود والبقاء. صحيح ان البطولة البصرية فى العمل للشخصية التى تمسك بالسيف بقوة فى اليمين، خاصة أنه علميا سيكولوجية الرؤية تبدأ من اليمين، الا أن الشخصية الثالثة التى يقف على (كتفها حمامة) وتضع ما يبدو انه «يدها» على ما يبدو انه «بطنها»، تخطف الأنظار، تبدو لنا الان فى حالة حمل و مناجاة مع جنين. نرى تلك الشخصية تضع يدها على هيئة «جناح»، فى محاكات لشكل الدرع على صدر المقاتل. ومن عندها تتوالد حركة الريح فى اتجاه اليمين، على عكس قانون رؤية العمل، فى دلالة على اكتمال دورة من دورات الحياة. وان كانت الريح تبدأ من عندها وهى التى تقف امام اتجاه الريح، فى الوقت وفى نفس اللحظة نرى شعر الشخصيات المقاتلة ضد حركة الريح اى ضد المنطق, ليبدو وكأن حركة ريح تعيد ترتيب مشاهدة العمل النحتي: نحن الان نراه من اليسار الى اليمين و كأن الشخصية الحبلى تمثل السلم كتذكير بأصل الاشياء و كأن تلك الشخصية تبدو أقرب الى السواء والمنطق . نظن تلك رسالة الفنان: تذكرنا ان السلم هو الاصل و ليس الحرب. وان كانت حساسية التعبير تجعل من الشكل لا يفصح عن كل مكوناته، الا بالتأمل، فأهم ما يميز هذا العمل هو الرمز، والجملة التى يقولها ان هدف الحرب هو السلم، فقد بدأ العمل بالسيف مستقرا على الارض بزاوية قائمة، ثابتا مستقيما، وانتهى العمل بالحمامة على كتف الشخصية الثالثة منبع اسرار العمل الفني، لكن المفارقة ان الشخصية الحامل هى التى يبدأ من عندها البعد الثالث والرابع ممثلا فى حركة تأثير الريح، من الشمال لليمين (اى من الحمامة للسيف وليس العكس) كتذكير بالترتيب الطبيعى للصيرورة التى نستطيع ان نفتخر انها لصالح الأنسان. لان هدفها الانسان، مع ذلك ارى ان عمل محمود شكرى مازال لم يكشف عن كل أسراره. اما لوحة يوسف سيده فهى تنبض بالمصرية وتصل المجد القديم بالجديد. وجه الجندى المجهول يسكن اللوحة، وينبض مع الهتافات، رمزا للشعب ورمزا للحامى ورمزا للحمى، كل خوذاته مكتوب عليها جيش مصر المنتصر. رمز النسر رجع كصدى من زمن الامجاد فى شكله الهيروغليفي, الى يوم نصر فى رمز العلم المصري. فسيفساء من الفخر مطرزة بوجوه ورموز وحروف مصرية من هيروغليفية المعابد القديمة الى هتافات شارع 1973 مستخدما الالوان الشعبية الاساسية الصريحة، والكتابة (الخط العربي)، وكأنه يكتب على الجدران، هتافات الصامتين، وكأن يوثق حدثا حضاريا تراثا: «.. حقق النصر، جيش مصر، حطم العدو، السادات، مصر عبرت القناة، السويس، اكتوبر, ارض.. «. فى لوحة حامد ندا (المنتصر)، نفاجأ بالشمسين او الكوكبين حتى نعتقد انهما مشهدان فى خيال الفنان الذى ربما يكون الشخصية التى تشرف على المشهدين فى رؤيا تجمع بين الماضى و الحاضر ( يسار و وسط اللوحة كمشهد اول تحت سماء الشمس الساطعة ) والمستقبل و الامل و الحلم ( يمين اللوحة كمشهد ثان تحت سماء الكوكب الثانى ) الأول خصه بشمس قوية تضىء الجانب الايسر من اللوحة بينما المشهد الثانى يفشى كحلم. مشهدان للنصر بين الماضى والمستقبل. هناك اكثر من بطل فى اللوحة مرة هو الانسان الذى ينظر بترقب، ومرة الحصان رمزا للبطولة والنبل، ومرة الاسرة التى تمتطى الحصان المنتصر؛ الاب والام والبنت والابن الذى يقود حصان النصر فى مفاجأة تدل على القيمة التى يعلقها الفنان على الاجيال القادمة فى قيادة خيول النصر وفى ظهره كل ديمجرافية وتاريخ الوطن بامتداد جذورها حيث نرى الجد والجدة فى الخلفية. فيما نرى بطلا اخر هو التاريخ، وهو موضوع المشهد الأول من اللوحة ، ثم الجغرافيا ممثله فى لقاء النيل بالصحراء والبحر المتوسط. وندهش للرؤية ان الطائر فى يد الاب هو الشخصية الوحيدة التى تنتمى للمشهدين طائر هيروغليفى و لعله نسر العلم المصرى رمز النصر المصري.