فى عالم ملئ بالعنف تجتاحه الحروب بكافة أشكالها يتم الاحتفال باليوم الدولى للاعنف فى يوم 2 أكتوبر من كل عام ، وهو ذات يوم مولد المهاتما غاندى، زعيم حركة استقلال الهند ورائد فلسفة واستراتيجية "اللاعنف"(الساتيا جراها). فقد إتفقت دول العالم على الاحتفال السنوى بيوم "اللاعنف" حيث تقدمت140 دولة بصيغة القرار للجمعية العامة بالأمم المتحدة وتمت الموافقة عليه فى شهر يونيو عام 2007. ونص القرار على أن إحياء تلك الذكرى (اليوم الدولى للاعنف) يعد مناسبة لنشر رسالة اللاعنف، بكافة الوسائل المتاحة بما فيها التعليم وتوعية الجمهور. ويؤكد القرار مجدداً "الأهمية العالمية لمبدأ اللاعنف" والرغبة "فى تأمين ثقافة السلام والتسامح والتفاهم واللاعنف". وجاء إتساع نطاق المشاركة فى تقديم القرار وتنوعها ليعبرا عن الإحترام العالمى للمهاتما غاندى وللأهمية الدائمة لفلسفته. وقد وصف غاندى اللاعنف بالقول ، "إن اللاعنف هو أقوى قوة فى متناول البشرية. فهو أعتى من أعتى سلاح من أسلحة الدمار تم التوصل إليه من خلال إبداع الإنسان". مولد "اللاعنف" ولد موهنداس كرامشاند غاندى (المهاتما غاندى) فى مدينة بورباندار حيث منزل موهانداس المطل على شاطئ بحر العرب فى يوم 2 أكتوبر عام 1869. ومن هناك تجول غاندى فى أنحاء كثيرة من العالم حاملا شعلة فلسفة وإسترتيجية "اللاعنف" ليتحول إلى بطل قومى وعالمى ومصدر إلهام للعديد من العظماء خلال القرن الأخير. ولمولد "اللاعنف" قصة يجب أن تروى. ففى أحد أيام شهر أغسطس عام 1906 وبعد نهاية يوم عمل شاق كان غاندى عائدا إلى مدينة جوهانسبرج فى جنوب افريقيا بعد أداء واجباته الداعمة لثورة الزولو. فقرأ فى الجريدة الرسمية عن مشروع قانونى لو تم تنفيذه لكان معناه القضاء على الهنود فى جنوب افريقيا وضياع مستقبلهم. كان القانون يفرض على كل هندى أن يسلم بطاقة هويته القديمة ثم يحصل على بطاقة هوية جديدة. وكان هذا معناه فتح الباب أمام تلاعب الاستعمار فى بيانات الهنود بما يتماشى مع مصالحه التى كانت تميل إلى ملاحقة الهنود بالغرامات والسجن وطردهم من البلاد. وتم عقد إجتماع عام للجالية الهندية فى جنوب افريقيا فى شهر سبتمبر 1906 حيث اتخذ المشاركون قرارا تاريخيا برفض الخضوع للقانون المقترح لو تحول إلى قانون نافذ ، والتعهد بتحمل أشد العقوبات فى سبيل الثبات على رفض الخضوع للقانون الجائر. وفى نهاية اللقاء تملكت الجميع حالة من الحيرة فلم يكن أحد يعلم بالاسم الذى يمكن أن يطلقوه على الحركة المعارضة الجديدة. وشعر المشاركون بأنه من العيب أن يتم تسمية هذا العمل النضالى باسم إنجليزى (لغة المستعمر). وعندها تبنى غاندى نشر إعلان فى صحيفة "الرأى الهندى" عن جائزة تمنح لمن يقترح أفضل اسم للحركة النضالية الجديدة. وعندها تقدم القارئ ماجنلال غاندى مقترحا اسم "سادا جراها" (وتعنى الثبات دفاعا عن قضية عادلة) فأعجب الاسم المهاتما غاندى ولكنه حوره للحصول على تعبير رأى أنه أدق وأكثر تعبيرا للمعنى وكان كلمة "ساتيا جراها" (القوة الناجمة عن الحقيقة والحب) أو "اللاعنف". لقد أظهر غاندى قوة المعارضة السلمية للقمع والظلم والكراهية. وكان قدوة ألهمت كثيرين غيره من صناع التاريخ مثل مارتن لوثر كينج الذى حارب العنصرية فى الولاياتالمتحدة ، وفاسلاف هافيل الذى واجه بنجاح قمع النظام الشيوعى فى تشيكوسلوفاكيا السابقة ، ونلسون مانديلا الذى نجح فى إسقاط الحكم العنصرى فى جنوب أفريقيا. وكانت رسالة هؤلاء إلى العالم هى أن الانتصار لكرامة الإنسان ورفض الكراهية والعنف والعمل من أجل عالم يعيش فيه الناس على اختلاف ثقافاتهم ومعتقداتهم معا فى بيئة يسودها الاحترام والمساواة. ماهو "اللاعنف"؟ ولفهم أدق لرؤية غاندى "للاعنف" وسبل استخدام تلك الفلسفة والإستراتيجية فى نيل استقلال الهند من الاستعمار البريطانى سنجد أن غاندى يرى أن الهند ماقبل الاستقلال لم تكن تقتصر على بعض الأمراء الذين يمسكون بمقاليد السلطة بل كانت الهند هى الملايين من أبناء الشعب الهندى الذى يعتمد هؤلاء الأمراء عليهم حتى يستمر وجودهم. ويرى غاندى أن الملوك يستخدمون دائما سلاح القوة فهم يريدون أن يأمروا فيطاعوا ، أما عامة الشعب الذين عليهم أن يطيعوا فلايحتاجون إلى البنادق لأنهم الأغلبية فى الهند أو فى أنحاء العالم. وقال غاندى :"إذا تدرب الشعب على استخدام قوة الروح ، فإن أوامر أصحاب السلطة لهم وتهديداتهم لن تتجاوز أسلحتهم. لأن الرجال الطيبين ، يحتقرون الأوامر الظالمة. وأبدا لم يخضع الفلاحون فى الهند يوما لتهديدات السيف فهم يجهلون استخدامه ولايخافون مستخدميه. إن الذين يرتاحون لفكرة الموت هم حقا الأقوياء، وأولئك الذين يتحدون الموت هم متحررون من كل خوف". ومن الركائز الأساسية لنظرية اللاعنف أن سلطة الحكام تعتمد على موافقة السكان، ومن ثم يسعى اللاعنف إلى تقويض هذه السلطة من خلال سحب موافقة وتعاون الشعب. وثمة ثلاث فئات رئيسية للعمل اللاعنيف:1- الاحتجاج والإقناع، ويشمل المسيرات والاعتصامات. 2 عدم التعاون. 3 التدخل غير العنيف، مثل عمليات الحصار السلمى. ويرى الخبراء أن عقيدة اللاعنف كانت موجودة قبل غاندى بقرون إلا أن غاندى كان أول من طبقها على نطاق واسع فى الحركات السياسية والاجتماعية وحولها من أمر شخصى فردى إلى عمل جماعى. وقد أكد الزعيم الهندى جواهر لال نهرو ذلك بالقول :"إن غاندى لم يأت بشئ جديد من ناحية المبدأ ، إنها نفس النظرية والمبدأ الذى نادى به الهنود القدماء خلال القرون الماضية ، وإنما ميزة غاندى أنه لم يكتف بعرض النظريات بل مارسها على نطاق واسع". وقد لجأ الشعب الهندى دائما إلى استخدام المقاومة ب"اللاعنف" فى كافة مجالات الحياة فكانوا ينقطعون عن التعاون مع الحكام الظالمين لمجرد قيام هؤلاء الحكام بما لايرضيهم. وقال غاندى إن المقاومة باستخدام "اللاعنف" هى الطريقة التى نحافظ بها على حقوقنا بقبولنا بتحمل الآلام وهى على النقيض من المقاومة المسلحة تماما. وفيما يتعلق بالصراعات الحالية يتعرض تطبيق "اللاعنف" لكثير من العقبات على أرض التطبيق الواقعى العملى. فعلى سبيل المثال سيكون من الصعب على الفلسطينيين فى الأراضى المحتلة أن يكرروا ما فعله سكان إحدى المناطق الهندية بالنزوح بعيدا عن قريتهم التى كانت تخضع لحاكم ظالم لأن الهدف الأساسى لخصمهم (الاحتلال الإسرائيلى) هو ترحيلهم بالفعل أو إبادتهم حيث هم!! وكذلك الحال فى نماذج صراعية أخرى مثل أوكرانيا والعراق وسوريا. ولكن يظل الأمل مستمرا فى إنهاء الصراعات بين البشر ب"اللاعنف" طالما كان للبشر عقل قادر على التفرقة بين النافع والضار. فقد قال غاندى: "عندما أسترجع دروس التاريخ التى تؤكد أن للحقيقة والحب الغلبة فى النهاية. هناك حقيقة يجب أن نحفرها فى أذهاننا وهى أن الطغاة والقتلة كانوا يشعرون دائما بأنهم لايقهرون، ولكنهم سقطوا فى النهاية".