ليس من المألوف أن يحتفل العالم بذكري صدور رواية من الروايات، ناهيك عن أن يتذكرها ويحتفل بها بعد أربعة قرون من صدورها. ولكن هذا هو الذي حدث منذ تسع سنوات بمناسبة مرور أربعمائة عام علي صدور رواية (دون كيشوت) للكاتب الإسباني سيرفاتيس (Cervantes) الذي وصفته هذه الرواية في مصاف أعظم الكتاب علي مر العصور، وقالت عنها دائرة المعارف البريطانية إن «الأطفال يقلبون صفحاتها، وصغار السن يقرأونها، والكبار يفهمونها، والشيوخ يمتدحونها». ما الذي ذكرني بهذه الرواية الآن؟ أعترف بأن الذي ذكرني بها التفكير فيما تمر به بلادنا العربية الآن. ليس بالطبع لأن وقائع الرواية تشبه علي أي نحو ما يحدث في هذا البلد العربي أو ذاك ولكن لأن موقف كثيرين من المثقفين العرب، مما يحدث في بلادنا فيه بعض الشبه بموقف بطل الرواية (دون كيشوت) مما مر به من أحداث. رواية دون كيشوت هي قصة اقطاعي في الخمسين من عمره، يعيش مع ابنة أخيه وخادمته ولكنه أدمن قراءة القصص الخيالية التي تصف شهامة الفرسان ومروءتهم فتصور أن كل قصة منها قد حدثت بالفعل، ولم يعد قادرا علي التمييز بين الممكن وغير الممكن أو بين ما يقع بالفعل وما هو من صنع الخيال. يقرر أن يتجول في العالم لإصلاح ما فسد منه، فيعامله العالم معاملة قاسية جراءته تجرئه علي محاولة إصلاحه، ويتعرض للضرب والاهانة المرة بعد المرة. نشاهد مثلا دون كيشوت في رحلاته وهو يعامل النساء غير المحترمات وكأنهن سيدات فاضلات، وينزل في فندق بسيط فيعتبره قلعة من القلاع، ويعامل صاحب الفندق وكأنه قائد عظيم ويخلع عليه صفات الفرسان، ويقابل في طريقه رجلا يعامل صبيا صغيرا بقسوة بالغة إذ ربطه بالحبال بشجرة وانهال علي ضربا فينهره دون كيشوت ويعنفه، ويطلب منه أن يعده بحسن معاملة الصبي من الآن فصاعدا، فيعده الرجل بذلك ثم يشرع في ضربه من جديد بمجرد أن يغادر دون كيشوت المكان. ثم يصادف مجموعة من الرعاة البسطاء فيقرر أن يلقي عليهم خطبة يتكلم فيها عن مزايا السلام والتخلي عن أي نوع من أنواع الملكية الخاصة. ولكن لعل أشهر موقف في الرواية وهو ما يعرفه الجميع، سواء من قرأ الرواية أو سمع بها فقط، هو موقف دون كيشوت عندما مر بطواحين الهواء، حيث تصور أنها جماعة من العمالقة الأشرار، فقرر أن يدخل معها في معركة وشرع في مصارعتها. لقد اتخذ دون كيشوت علي مر العصور رمزا لما يفعله شخص يرفض أن يري الدافع كما هو في الحقيقة، بل يراه كما يصوره له خياله. قد يكون رجلا نبيلا وصاحب مبادئ سامية، ولكنه يتعامل مع الواقع علي نحو غير ملائم بالمرة، فينتهي الأمر بمأساة. والرواية تنتهي فعلا نهاية مأساوية، إذ يعود دون كيشوت حزينا إلي منزله، مرهقا ومحبطا ويائسا تماما من إصلاح العالم، ومعترفا بهزيمته أمام عالم مادي ومجنون. وعندما يجلس لكتابة وصيته قبيل وفاته، يوصي بأمواله لابنة أخيه ولكن بشرط، وهو أن تمتنع بتاتا عن قراءة الكتب الخيالية التي تتكلم عن شهامة الفرسان. ما هي بالضبط طواحين الهواء التي نحاربها الآن؟ خطر لي أولا ما يبديه كثيرون منا من غرام جامح بالستينيات، وكأن من الممكن أن يعود جمال عبدالناصر (أو شخص شبيه به) الي الحياة، فيطبق اجراءات صارمة لصالح الفقراء، ويتحدي الدول الكبيرة، وينادي بالوحدة العربية، ويبدو لفترة وكأنه كاد ينجح في تحقيقها، ويغلق باب الاقتصاد في وجه العالم مناديا «بالتنمية المستقلة». كيف يمكن لنا أن نتصور أن تصرفات من هذا النوع يمكن أن يصبر عليها العالم اليوم، في ظل ما صار إليه من عولمة، ووصول الشركات العملاقة بمنتجاتها وإعلاناتها الي أقصي أطراف الأرض، وعبور القنوات التليفزيونية كل العوائق لتصل الي أصغر فلاح في أفقر قرية، وانتشار التليفون المحمول، في مختلف صوره، ليربط الناس بعضهما ببعض بأقل مجهود، وهجرة الشباب بحثا عن عمل في أي مكان، ولو كلفهم السفر حياتهم.. الخ؟. هل نحن بذلك التصور نصارع طواحين الهواء، كما كان يفعل دون كيشوت؟ أو فلننظر الي حماسنا منقطع النظير «للديمقراطية» ألا تري ما حدث للديمقراطية في مختلف بلاد العالم؟ انجلترا، مهد الديمقراطية تذهب لاحتلال العراق (الي جانب الولاياتالمتحدة) بالرغم من خروج الشعب الانجليزي بأسره الي الشوارع معارضا ومنددا بهذا الغزو، قرارات أوباما بضرب ليبيا تارة أو التهديد بضرب نظام الأسد في سوريا تارة أخري، أو بضرب أو عدم ضرب جماعة داعش في العراق، تتم بموافقة صورية من المجلس النيابي، ويفاجأ بها الشعب الأمريكي، كما يفاجأ بها بالضبط الشعب الليبي أو السوري أو العراقي، ووسائل الإعلام، التي تملكها وتوجهها الشركات الكبري، تتحكم في الرأي العام فتوجهه الي اليمين تارة والي اليسار تارة، وتزعم في الوقت نفسه أنها «ديمقراطية» تعكس رغبات الناس، أو فلننظر الي ما حدث للديمقراطية عندنا بعد ثورة 25 يناير 2011، كان يأسنا من «ديمقراطية» حسني مبارك مفهوما تماما، في ظل تزوير الانتخابات المرة بعد الأخري، واصطناع مختلف الطرق لاستبعاد أي مشاركة من جانب الوطنيين، سواء في الوصول الي الحكم أو في التأثير في الرأي العام، مما دفع الناس الي القيام بثورة يناير، ولكن كيف نبرر ما عشنا فيه من خيال، والاستسلام للأحلام خلال ما يقرب من أربع سنوات تلت هذه الثورة؟. كيف خدعنا بدعوتنا الي حوار بعد آخر، والي استفتاء بعد استفتاء، وأنفقنا الأيام والليالي في صياغة مواد دستور جديد، سرعان ما ظهر أنه ليست هناك أي نية للالتزام به؟ هل وقعنا نحن أيضا ضحية قراءة روايات خيالية، أو حتي تحليلات غير صحيحة بالمرة، قام بها كثيرون ممن صوروا عهد عبدالناصر علي غير حقيقته، ونسبوا لعبدالناصر أفضالا تعود الي طبيعة العصر الذي كان يعيش فيه أكثر مما تعود الي صفات شخصية فيه، ولا تعترف بأن مجيئه هو نفسه الي الحكم كان نتيجة لأن عصره كان يتطلب ويسمح لرجال مثله بأن يصلوا الي الحكم ويستمروا فيه أكثر من عشر سنوات قبل أن يتدخل العالم بضربه ووضع نهاية لطموحاته؟. هناك من قال بأن سيرفايتس كان يقصد برواية دون «كيشوت» أن يصور مرحلة فاصلة في التاريخ بين العصور الوسطي، التي سادت فيها أخلاق الفروسية والشهامة والمروءة، وبين العصر الحديث الذي بدأت تحل فيه الدوافع المادية والتجارية، محل الاعتبارات الأخلاقية، وأن المؤلف كان يعبر عن حزنه وحسرته لما حدث، فهل يمكن أن نجد نحن أيضا في الرواية ما يلائم أحوالنا الآن، فنري في سلوكنا الآن تمسكا بمبادئ آخذة في الزوال، ورفضا لأن نتعامل مع العالم الجديد علي حقيقته؟. لمزيد من مقالات د. جلال أمين