هو ارتحال و ليس رحلة...فمن يقوم به لا يجتاز مسافة يحددها المكان، ولايشعر بتتابع الساعات والأيام الذى يحدده الزمان . فكيف نعرف البداية أو النهاية وهو ارتحال داخل القلب، والمسافة هى مسافة اطمئنان الروح بلجوئها إلى رحاب الله تعالى, حين يحملها الجسد إلى مكان هو منتهى كل الأشواق التى تحملها قلوبنا..إلى مكةوالمدينة والمشاعر المقدسة. كتب الله تعالى لنا جميعا هذا الارتحال. وإن كنت أريد أن أتوقف عند حكاية أوليا جلبى, أحد المسافرين إلى الله فى موسم الحج منذ ما يقارب الأربعمائة عام. وهذا المسافر ليس كغيره, فهو عاشق للسفر و لديه الكثير من القصص والملاحظات. كما أنه على عادة بعض الرحالة المسلمين يبدأ رحلاته برؤيته للرسول صلى الله عليه وسلم فى منامه ، فيدعو لنفسه بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم وبالسياحة التى تعنى فى أبسط تفسير التجول وتدبر أحوال البلاد والعباد. سبب آخر هو أن جلبى يعتبر بالفعل أهم رحالة عاش فى بر مصر بعد ابن بطوطة. صحيح ان كثيرين جاءوا ليستقروا لبعض الوقت فى المحروسة، الا أن أوليا جلبى- الذى يعنى اسمه «السيد الولى» ولد فى بدايات القرن السابع عشر فى بلاد الأتراك، وجاب أوروبا من أقصى شرقها إلى غربها، وكانت له سياحته فى إيران والعراق وسوريا، ومصر والسودان والحبشة وكتب عن مشاهد وأشخاص ربما لم يتوقف التاريخ عندهم كثيرا. فعندما جاء إلى مصر المحروسة كتب عن كل ما شاهد وعرف من أوصاف لمصر القديمة والفسطاط، و كيف بنى النبى يوسف عليه السلام الفيوم , وحكام مصر، وأشهر المساجد والتكايا والحمامات والخانات، وأحوال النيل والحرف والخزائن، والموالد، وكلها مدونة وبأدق التفاصيل لتحكى لنا عن تلك الفترة التى يحوطها كثير من الغموض من تاريخ مصر فى العصر العثمانى. وقصته مع مصر بدأت من الحجاز, بعد أن أتم طواف الوداع، واستقر رأيه على مرافقة قافلة الحج المصرى عند عود تها. و يقال - حسب ما يشير د. أحمد فؤاد متولى فى تقديمه لكتاب جلبى الشهير«سياحت نامة» أو كتاب الأسفار - ان جلبى قد توفى بعد عامين من رحلة مصر والسودان و الحبشة ولا يعرف ما إذا كان قد دفن فى مصر ام فى بلاده. تأخرنا كثيرا عن تفاصيل هذا الارتحال الذى دونه جلبى باسم «الرحلة الحجازية» وقدم لها وترجمها د. الصفصافى أحمد المرسى- وهو الكتاب الذى نعرضه لك على أعتاب وقفة عرفات, وهى رحلة قامت فى زمن كانت منطقة الحجاز ترتبط أمورها بوالى مصر. وتبدأ الاحداث بالتحاق جلبى بقافلة حجاج الشام التى كانت تستعد للتحرك فى شهر شوال بعد أن وصل ألفان من حجاج إيران. وكان على أوليا ان يقوم بتأمين احتياجات الرحلة من مأكل ومشرب. وطوال الترحال تنتقل القافلة عبر كثير من الاماكن, مثل حوران التى يقال إن آدم عليه السلام قام بزراعتها. فهى منطقة خصبة مباركة تخرج من حبة القمح الواحدة خمس عشرة سنبلة. بداية هادئة، الا أنه فى اليوم الخامس والعشرين من شوال تفاجئ القافلة الأمطار التى تنقلب إلى سيول، حتى أن الحجيج يكوم كل منهم أمتعته داخل خيمته ويجلس فوقها بعد أن ظهرت الزواحف والقوارض من باطن الأرض وبدأت فى أكل كل ما يقابلها.فلا يجدون سبيلا للنجاة الا قراءة سورتى الاخلاص والانعام والصلاة على النبى المصطفى. بعدها يصلون إلى مزار سيدنا أيوب عليه السلام, حيث إذا ابتلى أى إنسان بأى مرض جلدى يغتسل فى نبع النبى أيوب ليعافى بإذن الله، ثم إلى خان عين الطيرالذى تصل إليه القافلة بعد أن تفقد الكثير من حيواناتها إما غرقا أو نفوقا من شدة البرد، ورغم هذا يستطيع الحجاج التركمان والعجم أن يعبروا مستنقعا بعد أن وضعوا أكلمة تحت أقدام الجمال ليساعدوها على الخروج من الأوحال. ويحكى جلبى عن قلعة الكرك بالقرب من القدس, حيث يحيط بالقافلة أربعون أو خمسون فارسا بدويا غليظا كان لابد من التعامل بحزم معهم لتفريقهم، وعن وصول القافلة إلى مضيق النقب حيث تواجه بعتيق الرمال الذى تتسمر الجمال عنده, عند جبل الناقة, حيث نحرت ناقة صالح عليه السلام. ولهذا تطلق القوافل المدافع والبنادق. فى رحاب النبى وتصل القافلة أخيرا إلى وادى الاستقبال ليلتقوا أعيان المدينةالمنورة و مطوفيها أصحاب الوجوه النورانية و الملابس البيضاء قبل يوم واحد على حلول شهر ذى الحجة. و تظهر قبة المسجد النبوى الشريف التى كانت رؤيتها ايذانا بالتهليل و التكبير والدعاء. وتأتى مواكب الاستقبال ويقدم الأطفال أكياس التمور، ويدخل الباشا- كان جلبى فى رفقة الباشا العثمانى- فى أبهى صورة بالفراء السمورى. وتبدأ زيارة المدينة بمسجد ذى القبلتين الذى تغيرت فيه القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، والمكان الشاهد على غزوة الخندق حيث توجد أربعة مساجد منهما مسجد سلمان الفارسى ومسجد سيدنا عثمان ومسجد سيدنا على. ويغتسل الحجاج فى حمام عام حتى يتخلصوا من وعثاء السفر قبل أن يتجهوا نحو قلعة المدينة. ويدخلون من باب اسمه باب مصر ثم يدلفون إلى المسجد النبوى، ومنه إلى الروضة الشريفة, ليبدأوا بتنظيف المكان ثم يدخلون المقصورة حيث جسد الحبيب المصطفى مسجى فى صندوق مغطى بجزء من غطاء الكعبة الشريفة الأخضر. وفى هذا المكان الطاهر من المجوهرات و الشمعدانات و القناديل ما لا عين رأت. وقد ثبت أمام الغطاء المسدول أمام الرسول الكريم جوهرتان من الماس يقرأ الدارسون على نورهما من شدة التلألؤ. كما يوجد بتلك القلعة حمامات وخانات و عشرون كتابا وسبع دور للقراء وسبعون نزلا لعابرى السبيل بعضها أوقاف توزع على الحجيج العسل والشربات المحلى بالسكر. وهناك ثلاثة أماكن بها صنابير تصلها المياه من عين الزرقاء التى تغذى المدينة بالماء الوافر. وتعداد سكان المدينة فى غير أوقات الحج لا يتجاوز الأربعة عشر ألف نسمة يرد إليهم مأكلهم ومشربهم من مصر التى أوقفت عليهم أوقافا كثيرة ومنها مائة ألف أردب من القمح. أما البقيع فهى من الأماكن المباركة بالمدينة, وإليه ذهبت القافلة وتوقفت لقراءة الفاتحة لسيدنا عثمان وأم سلمة أم المؤمنين وعبد الله بن جعفر بن أبى طالب وعلى زين العابدين والعباس بن عبد المطلب. وآل البيت جميعا بالبقيع. وبعدها كان لابد من زيار مسجد قباء، وجبل أحد حيث قبر حمزة والشهداء. على أبواب مكة وأخيرا تتجه القافلة إلى مكةالمكرمة, لتحرم من آبار على ويرتدى الجميع الملابس البيضاء وتعلو أصواتهم بالتلبية.وعند طريق بدر يلتقى طريق الحج المصرى بطريق الحج الشامى. فمن عادة حجاج مصر الاحتفال بغزوة بدر, حيث يشعلون المصابيح والمشاعل، حتى يصل الجميع إلى مقام العمرة وهى عبارة عن عشر منازل ودكاكين رغم فقرها وتواضعها الا أنها المكان الذى يخرج إليه أهل مكة لاستقبال الحجيج ليشرحوا لهم شروط الإحرام حيث توجد بركة طويلة يمكن للقوارب ان تتجول بها وحمامات وميضات للاغتسال. تبدو مكةالمكرمة مدينة لا تنام يقوم أصحاب الحرف بتنظيف دكاكينهم وتبادل الشاى والشربات والمهلبية والقهوة، وتزدان دكاكين بائعى الجواهر وسوق العطارين. وللحرم أبواب يبلغ عددها تسعا وثلاثين بابا أهمها باب السلام، وهو عبارة عن ثلاثة أبواب متراصة تفضى إلى الحرم. كما يوجد ثمانون عمودا مربعا عاديا ومائة و خمسة وثمانون عمودا من الرخام الأبيض. ويصف جلبى قباب الحرم، ومنارات البيت الحرام والكسوة الشريفة التى كانت فى الماضى من الحصير ثم أصبحت من الديباج فى عهد الخليفة المأمون، حتى قامت شجر الدر بإعداد كسوة سوداء مطرزة بخيوط الذهب. ونتوقف أخيرا عند قصة ارتباط مصر بالكسوة الشريفة وأوصاف الابنية داخل الحرم وبئر زمزم حتى نصل إلى العمارات والاسواق المكية، والمدارس والاسبلة والحمامات، والاماكن المستجابة الدعاء ووصف بيت السيدة فاطمة وأبى بكر وعمر وعثمان وعلى وعبد مناف. وتنتهى التفاصيل الدقيقة التى تنقل لنا صورة حية وواضحة للحياة عند الحرمين فى القرن السابع عشر، فهذا المكان عرف التمدن والمصالحة. وكيف لا يكون وهو ملتقى الحجاج من جميع بقاع الأرض. أما عن مصر فقد كانت حاضرة حتى قبل أن يزورها جلبى فى صورة حجاج مصر، وإحتفالات بدر، وتفاعلهم مع أهل الحرمين، والجنود المصريين المصاحبين للباشا وحتى الصرة المصرية التى كانت تنفق على بعض الأماكن المباركة وكانت تعبيرا عن الروح والقلب المصرى. كتاب جميل وترجمة جيدة ...ومازال هناك الكثير الذى لم نعرفه ويمكن أن نتعرف عليه من الكتب ، أما ما نشعر به أثناء الحج ونرويه للأهل والأصدقاء فهو تجربة خاصة وعلامة فى القلب يعرفها فقط كل من كتب الله تعالى له الترحال إلى هذه البقاع المقدسة.