لم أجد في اللحظة الحالية أجمل من هذا الكتاب لشرح الحالة المصرية في مواقيت الحج. فقد تعودت مصر ومنذ دخولها طواعية في الاسلام أن ترسل الكثير من أبنائها طيرا مسافرا. في الرحلة المقدسة كل عام والي البقاع المباركة ليتآخوا مع أخرين جاءوا من كل بقاع الارض واختاروا المحروسة كسكة سفر. ومن ضمن ما كتب عن رحلة الحج الي عرفات الله ما كتبه الرحالة محمد لبيب البتنوني الذي تتبع وقائع الرحلة الحجازية للخديو عباس حلمي باشا والتي تشي بمشاعر كان المصريون يتشاركون فيها فلا يختلف الامير عن الغفير.. فالجميع مسافرون الي الله عز وجل بلا متاع. وأما الممتع في هذا الكتاب فهو منحه صورة كاملة عن الاراضي الحجازية في بدايات القرن العشرين.. فيحكي عن أرض العرب وسكانها في قديم الزمن من العماليق والمعينيين والعدنانيين واللخميين وتقاسيم جزيرة العرب بين الدول ثم يبدأ في سرد تفاصيل رحلة الخديو التي أعلن عنها من سراي عابدين في يوم السبت الموافق26 ذي القعدة عندما تحرك القطار الخصوصي من سراي القبة حتي وصل الي محطة مصر ومنها الي السويس وسط حشد جماهيري كبير علي طول محطات القطار المصرية ثم صعود الخديو علي ظهر اليخت الشهيرة محروسة وهي اليخت الذي صنع في عهد الخديو اسماعيل وصحبه في افتتاح قناة السويس ونقله خارج مصر عندما تم اقالته من العرش وهو أيضا الذي أبحربالملك فاروق خارج مصر عقب الثورة- ووصول الركب الي جدة. بعدها يحكي الكاتب عن أحوال جدةالمدينة التي لاتنام والذي يتعرف فيها كل حاج علي أسم مطوفه والذي يأخذ منه جواز سفره ليعلم عليها من قلم الجوازات ثم يسير معه الي منزل يقيم به ثم يؤجر حميرا أو جمالا ليسافر الي مكة. و يعتقد البنتوني أن جبانة جدة تضم رفاة أمنا حواء الذي يصفه بكونه من الهياكل المقدسة في الجاهلية فلما جاء الاسلام هدمت الهياكل وكان من ضمنها وان كان قد بقي أثره برا بحق الامومة فأقاموا قبة. أما أهل مكة فهم خليط من كل الاجناس فقد أختارت بعض العائلات سكناها وأصبحوا مع الوقت مكيين كعائلة خوقير والمسكي من الهند وكشك من بخاري وهاشم والجبري من الشوام والقرملي من الترك والقزاز والرواس من مصر. ويصل الخديو عباس حلمي الي مكة مع حاشيته من باب جرول حيث كان حرس المحمل واقفا لاداء واجب السلام ليمر أمام التكية المصرية ودار الحكومة الحجازية حتي يصل الي باب الحرم الشريف فجر يوم الثالث من ذي الحجة ليطوف طواف القدوم ويخرج للسعي بين الصفا والمروة ليعود بعدها للاقامة في السراي التي بناها الحاج محمد علي باشا والي مصر. وفي اليوم التالي يتوجه الخديو لاداء صلاة الجمعة في الحرم المكي حيث ينزل المطر بعد طول انقطاع زاد علي السنوات الست. ويصف الكاتب يوم التروية وخروج الجناب العالي من مكة الي عرفة راكبا جوادا كريما وهو بملابس احرامه في صباح يوم التاسع ذي الحجة ويعرج في طريقه علي مسجد نمرة ثم يسير الي عرفة. وكانت افاضة الجناب العالي من عرفات من الفخامة بما لم يشاهد له مثيل بالمرة. وسار الجميع في هذا الموكب الرهيب حتي وصل الي المزدلفة بعد أن قطع الطريق من عرفة في ساعتين. وبعد صلاة الصبح نزل في موكبه الي مني فرمي جمرة العقبة, وذبحت الأضحية وتحلل من احرامه ثم نزل الي مكة فصلي العيد في الحرم الشريف بالمقام المالكي وطاف طواف الافاضة ثم تناول طعام الغداء في دار الامارة وعاد بعد صلاة العصر الي مني. ويفهمنا البتنوني انه وبوجه عام بعد النزول من عرفة ينتظر الحاج في مكة صدور أمر الشريف بسفر الحجاج منها ولا يكون ذلك في الغالب الا في الاسبوع التالي لنزولهم من حجهم. والغرض من هذا التأخير رواج تجارة هذا البلد. فاذا جهز الانسان نفسه سافر الي المدينةالمنورة أو الي بلده ان كان سبق بالزيارة قبل الحج أو شغله عنها شاغل. فينزل مع القافلة الي جدة ومنها الي حيث يريد. تتجه قوافل الحجاج من مكة الي المدينةالمنورة فيسيرون في واحد من أربع طرق هي: السلطاني والفرعي والغاير والشرقي. الا أن المفاجأة أن الخديو وحاشيته قد ركبواالقطار وان هذا القطار يصل الي المدينةالمنورة حتي اذا ما أراد العودة مرة أخري الي مصر ركب القطار الذي يمر علي محطة مدائن النبي صالح عليه السلام ثم معان التي كانت أكبر محطة بين المدينةالمنورة وبر الشام حتي يصل الي اليخت محروسة التي أقلته للاسكندرية. أما أكثر ما أستوقفني في هذه المذكرات أنها كتبت بشكل استكشافي وكأنها بالفعل رحلة العمر.. فتحدث عن تاريخ مكة وحكم الاشراف والحرم المكي وهدايا البيت الحرام وحمام الحمي والوقوف بعرفة والاثار بمني والطريق الي المدينة والحرم المدني وعادات المصريين عند نزولهم من الحج...بل وألاكثر من هذا انه طاف بشخصيات كالفاروق عمر والصديق أبي بكر وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه الي جانب حضرة الرسول الاكرم محمد صلي الله عليه وسلم... فما أبدع ما قرأت.