هناك من يرى في آلي سميث وريثة حقيقية لفرجينيا وولف.. حيث تبدو واعية لقول وولف "على المرء أن يكون امرأة-رجولية أو رجلا-نسويا"، في كتابتها التي تتسم بالحيوية والوعي بقوة التعاطف الإنساني. سميث صاحبة ست روايات وأربع مجموعات قصصية تثبت مع كل عمل لها تلك القدرة الفائقة على إعادة الابتكار وإعادة الخلق. آلي سميث ، التي أطلقت عليها صحيفة التليجراف البريطانية لقب “خليفة فرجينيا وولف” ووصفتها في أحدث أعمالها بأنها “تعيد ابتكار الرواية” , تتنقل في روايتها الجديدة التي تحمل عنوان "كيف تكون الإثنين معا" بين الماضي والحاضر، لتكشف عن حيلنا الماهرة في كشف وعينا الزائف بالزمن. هذا التناقض تحمله سميث، التي رشحت روايتها للقائمة الطويلة لجائزة مان بوكر مؤخرا ، إلى مساحة أخرى من الثنائية البسيطة الملغزة في آن حيث تضج روايتها بالألم والسعادة. سؤال بسيط تطرحه إحدى بطلات الرواية جورج ذات الستة عشر عاما :”ما الفائدة من الفنون؟" عندما اصطحبتها والدتها ، كارول، خبيرة الاقتصاد نهارا، والفنانة-التاشطة مساء، إلى مدينة فيرارا في شمال إيطاليا للاستمتاع بتأمل نقوش وزخارف قصر شيفانويا لرسام عصر النهضة الشهير فرانسيسكو ديل كوسا. بعدها بشهور قليلة تموت كارول بسبب حساسية خطيرة لدواء، لتترك الإبنة الجانحة جورج للمزيد من الأسئلة .. و رغم أن الرواية لا تطرح بوضوح السؤال عن أهمية الفنون، يبقى سؤال جورج ليطارد القارئ عبر صفحات الرواية .. التي تستكشف في خلفية أحداثها ما يمكن للفن أن يصنعه من تحول في حياة هؤلاء الذين يلتقونه مصادفة ، كما أولئك الذين يصنعونه. تجربة أن تتأمل وأن تكون موضع تأمل، تحرك حياة الشخصيات، حتى أن "المراقبة"، بمفهومها ودلالتها الواسعة تصير الموضوع الحاكم للرواية. فجورج التي يعصف بها الحزن ، تستسلم لغواية الملاحظة والتأمل وما يرتبط بها من راحة وانعتاق وجع من المشاعر المكبوتة . فتبدأ في مشاهدة الأفلام الإباحية فيما يشبه الهوس .. حتى تصادف المشهد الأكثر إزعاجا بالنسبة لها ، عندما تشاهد رجلا طاعن السن ينتهك صبية تحت تأثير المخدر.. حينها تفكر جورج في سلوكها على أنه "شهادة" تكفر عما عانته الفتاة . وهكذا تغير "المشاهدة" والتأمل عقل وقلب جورج ويمتد التأثير إلى عينيها أيضا، حيث تبدأ في رؤية تلك الفتاة أينما تلفتت. لكن "المراقبة" ليست دائما تجربة أليمة في رواية سميث، فجورج تتذكر كيف أن والدتها اعترفت ذات يوم أنها استمتعت بفكرة أنها تحت المراقبة من قبل المخابرات عن طريق صديقة لها .. تقول كارول في اعترافها :” ما أقوله هو أنني أحببت ذلك الشعور .. لا أدري ماذا أسميه .. أن تراقبي، وتكوني مراقبة .. شعور جذاب وليس بسيطا بحال. تلك الشحنة الإيروتيكية الناتجة عن إدراك المرء أن هناك من يراقبه، قد تكون بقدر متعة أن تراقب أنت شخصا ما..” فالمراقبة بالنسبة لآلي سميث ليست شيئا ثابتا أبدا ولا سلبيا، بل لها قوة وقدرة على تغيير طرفي المراقبة الذي يقوم بها والذي "يخضع" لها. “كيف تكون الإثنين معا" ليست فقط رواية عن جورج ووالدتها كارول والحاضر، لكنها أيضا رواية عن زمن آخر وبلد آخر ومجموعة أخرى من الشخصيات. فنصف الرواية يُحكى من خلال منظور جورج ، بينما النصف الآخر يرويه ديل كوسا ، الذي تعود روحه وصوته للحياة من خلال مراقبة جورج القهرية للوحة سانت فنسنت فيرير في الغرفة رقم 55 بالمتحف الوطني بلندن، للفنان ديل كوسا. الحيلة الروائية كانت قرار جورج أن تبتكر سيرة حياة ديل كوسا ليكون درسا في التعاطف الإنساني كمشروع مدرسي المراقبة في هذه الحالة تصبح لها قوة إعادة ميت للحياة بمعنى أو بآخر. وهنا تصبح الرواية ليس فقط مجرد عمل إبداعي خيالي، وإنما قرار باختراع سيرة حياة ، تسمح لسميث بأن تتخيل قصة تحول ما يعرفه العالم من شذرات عن ديل كوسا إلى سيرة حياة رجل من لحم ودم . وبينما تلاحق روح الفنان الفتاة جورج وتتبعها إلى بريطانيا المعاصرة، فإن هذا الجزء الثاني من الرواية يهتم بالأساس بخبرات ديل كوسا في مدينتي فيرارا وبولونيا الإيطاليتين . الازدواجية هنا أيضا تمتد إلى مفهوم الهوية الجنسية. فعندما يلحظ ديل كوسا وجود جورج في المعرض، فإنه يظنها في البداية شابا ، كما أنه في إعادة تخيل آلي سميث لقصة حياته يفترض أنه ولد كأنثى في البداية، ومع وفاة والدتها و بتشجيع من والدها الذي يعمل كبناء ، ترتدي ملابس صبي ، لتستطيع أن تستثمر موهبتها في الرسم بشكل مربح ، في زمن لم يكن ليقبل بفتاة كرسامة. آلام الحزن والفقد التي تعانيها بطلتا سميث اللتان فقدتا الأم، والتي تستعصي على العزاء رغم توالي أحداث الرواية، تتوازى بشكل كامل مع أجواء البهجة المرتبطة بقوة التغيير الإيجابية للفن والإثارة المبطنة بفرح يتقافز بين الكلمات التي تنسج صورة إنسانية عميقة للرغبة الطفولية الحقيقية جدا للمرء في أن يصبح أكثر من شخص واحد في آن، والرفض التام للاختيار اضطرارا لأن يكون إما هذا أو ذاك .. بإصرار على أن يكونها كلها معا..