ربما تكون صيحة ويليام والاس الشهيرة من أجل الحرية فى اسكتلندا قد خابت للمرة الثانية ، لكن أصداء الاستفتاء على الاستقلال فى الإقليم الأسكتلندى أخيرا أيقظ فتنا فى أرجاء أوروبا ليست مستعدة لها حاليا ، فمن ينسى أن هذا الكيان الأوروبى المتكامل الذى يقترب من المثالية يضع قدميه على أرض من الفسيفساء، ويرتكن الى ماض مخضب بالدماء. ورغم الرخاء الذى الذى حققته دول الاتحاد وتكالبها على مباديء ديمقراطية موحدة تتسم بالعدالة فى أغلبها، فإن ذلك لم يتغلب على حلم الاستقلال لدى الكثير من أقاليم الاتحاد على مستوى ما دون الدولة ، فلم تكد تمضى 24 ساعة على نجاة المملكة المتحدة من التفكك، حتى بلغت الشرارة إقليم كتالونيا بشمال شرق إسبانيا، وصوت نواب البرلمان المحلى للإقليم على منح حاكمه صلاحية الدعوة لاستفتاء على الاستقلال، وهو ما احتجت عليه حكومة مدريد بقوة وأحالت القضية إلى المحكمة الدستورية العليا بالبلاد ، لكن أرثر ماس حاكم كتالونيا أكد أن استفتاء اسكتلندا أضاء الطريق أمام استقلال كتالونيا. ويرى شعب كتالونيا - يبلغ تعداده نحو 9 ملايين نسمة - أن لديه روابط مشتركة تميزه عن سائر إسبانيا، فهم يتحدثون لغة ال"كاتلان" التى تتوسط اللهجة المستخدمة فى جنوبفرنسا وتلك الشائعة فى إسبانيا، كما يمتد تاريخ قومية "الكاتلان" بمؤسسات حكمها إلى القرن الحادى عشر، وتم توحيدها للمرة الأولى مع سائر إسبانيا فى القرن الخامس عشر، عندما تزوج الملك فيردناند ملك "أراجون" (التى تنضوى كاتالانيا تحت لوائها فى ذلك الوقت) من الملكة إيزابيلا ملكة "كاستيل" فى سائر أنحاء إسبانيا ، وقد قام الزوجان بتوحيد مملكتيهما، ومنذ ذاك الحين ظل حلم الكتالان يروح ويغدو، حتى جاء حكم الديكتاتور الإسبانى فرانكو فرانشيسكو القرن الماضى تاركا جراحا داخل الكتالونيين بسبب محاولته قمع هويتهم بالقوة ، وربما يظهر هذا الجرح من وقت لآخر من خلال التعصب الكروى كلما جرت مباراة كرة قدم بين نادى "برشلونة" (الذى ينتمى لإقليم كتالونيا) ونادى العاصمة الملكى ريال مدريد. وما يجعل إسبانيا الأكثر هشاشة أمام الفكرة الانفصالية دون سائر الاتحاد، أنها تواجه المطالب ذاتها من إقليم ثان على أراضيها وهو "الباسك" الذى يقع فى شمالها ويمتد حتى جنوب غرب فرنسا ويبلغ عدد قاطنيه نحو ثلاثة ملايين نسمة، ويرى أبناؤه أن لديهم تاريخا يميز إقليمهم يمتد إلى القرن السادس عشر ، وكانت آخر محاولات الباسك لنيل الاستقلال فى العام 2005، عندما سعوا للحصول على تصريح من مدريد لإجراء استفتاء على الاستقلال، لكن طلبهم قوبل بالرفض. وتهدد الحكومة الإسبانية كل من يلجأ لتنظيم مثل هذه الاستفتاءات سواء فى كتالونيا أو الباسك بإلقائه فى السجن، لكنها تعجز عن مواجهة المظاهرات الشعبية الحاشدة المطالبة بالاستقلال والتى حفزتها أحداث اسكتلندا. وقد سرت الشقوق فى التربة الأوروبية حتى إيطاليا، فطالب نواب حزب رابطة الشمال عن إقليم "فينيتو" رئيس الوزراء ماتيو رينزى بالإصغاء إلى مطالب "حق تقرير المصير فى الإقليم الواقع شمال البلاد"، واتهموا حكومة روما ب"الديكتاتورية"، بينما رحب نواب حزب رابطة الشمال الانفصالى - الذى يسعى لإعلان دولة "بادانيا" المستقلة فى شمال إيطاليا - بفكرة الاستفتاء فى حد ذاتها، مؤكدين أنها تدعم مباديء الديمقراطية. ولا تكاد تكون هناك حدود جغرافية متفق عليها ل"بادانيا"، لكن حزب رابطة الشمال يرى أنها تضم 14 "ولاية" أبرزها : لومبارديا وفينيتو وبيمونته وتوسكانى ، وترتكز الفكرة على الفجوة الماثلة بين شمال إيطاليا الصناعى الغنى وجنوبه الذى يعانى تراجعا تنمويا ونشاطا للجريمة المنظمة. وكان المصطلح قد استخدم سياسيا للمرة الأولى فى العام 1975 عندما نادى جيدو فانتى القيادى بالحزب الشيوعى الإيطالى بإقامة وحدة تضم أقاليم الشمال ، و تمتاز بنسيج اجتماعى اقتصادى مميز عن الجنوب، ومنذ العام 1991 برزت مطالب حزب رابطة الشمال لانفصال أقاليم شمال إيطاليا "بادانيا" أو منحها حكما ذاتيا. وحتى ألمانيا، صاحبة الاقتصاد الأول أوروبيا، تسود فيها مخاوف من نمو النزعة الانفصالية فى إقليم بافاريا جنوب البلاد الذى يمثل 20% من مساحة ألمانيا ، اذ يرى مواطنو بافاريا أنهم يملكون هويتهم المميزة، حتى أن بعضهم يعتبر نفسه "بافاريا" فى المقام الأول، وألمانيا فى المقام الثاني. ومما اسهم فى تأصل النزعة الانفصالية لبافاريا، عدم رضاء شعبها إبان القرون الوسطى عن الانضمام للإمبراطورية الألمانية البروتستانتية وتفضيهلم البقاء كإمارة مستقلة تعتنق الكاثوليكية. ولا تكاد تخلو دولة أوروبية من أوضاع مشابهة، فهناك الفلاندر فى شمال بلجيكا، الذين يتحدثون اللغة الهولندية، وتتراوح مطالبهم ما بين الاستقلال أو الانضمام لهولندا، وهناك أيضا إقليم سافوى فى فرنسا ، ويكاد يكون القاسم المشترك فى كل هذه الأقاليم ذات النزعة الانفصالية هو تفوقها الاقتصادى على سائر مناطق دولهم ، ويؤكد المراقبون أن أزمة منطقة اليورو ، والكساد الذى انزلقت إليه العواصم الأوروبية قد أجج مطالب الانفصال فى المناطق الصناعية الغنية. فلا شك فى أن الحركات الانفصالية الحالية تذكر بتاريخ أوروبا القديم وما شهده من قيام واندثار ممالك بقوة السلاح بشكل متسارع ، وكأن "ذنب" ما يجرى فى الشرق الأوسط قد أصاب المستعمر الأوروبى القديم الذى قسم منطقتنا يوما ما إلى دويلات، وربما يريد هذه الأيام تقسيمها إلى فتات أصغر حجما!