عندما يريد محام شاطر أن يبعد الشك عن متهم بعينه، فإنه يجتهد أحيانا فى أن يحول التهمة إلى «الشيوع» أى يشرك أكثر من مشتبه به فى ارتكاب الجريمة، وهو ما يؤدى أحيانا إلى تخفيف الحكم، وأحيانا أخرى للبراءة، إلا إذا كان القاضى على يقين من إدانة المتهم، أو المتهمين المشاركين فى الجريمة. وهناك فى مجتمعنا فى الآونة الأخيرة اتجاه لاستخدام شيوع المسئولية، حتى أنك لا تعرف على وجه اليقين من هى الجهة المسئولة عن نشاط ما، ولعل أكثر الأمثلة وضوحا فى هذا السياق فن وصناعة السينما، اللذين تدهورا إلى حد مفزع خلال الفترة الماضية، وأصبحنا نستخدم مصطلح «الأزمة» الذى يفترض أنه يصف أمرا عارضا، له أسبابه ومقومات تجاوزه عندما نتحدث عما يبدو أنه قد أصبح مرضا مزمنا لا شفاء منه. ولعل أهم أسباب تحول الأزمة إلى مرض مزمن هو الخطأ فى التشخيص، أو قل عدم وضوح الرؤية وتشوشها لدى كل أطراف القضية، فلقد سمعنا طويلا من كثيرين من صناع الأفلام ونقادها أن سبب الأزمة هو تدخل الدولة، وألقى عدد منهم أشنع الاتهامات على فترة «القطاع العام» الذى أصبح اسمه مقترنا بالفشل، ليس فى تطبيق التجربة، وإنما فى مفهوم القطاع العام ذاته. لكن والحال على ما ترى من سيطرة تجار القطاع الخاص خلال العقود الأربعة الأخيرة، التى عجزت السينما المصرية فى نهايتها عن مواجهة محنتها، فإن صناع الأفلام لجأوا مرة أخرى إلى الدولة، هذه المرة ليس من أجل تأسيس «نظام» يحمى الصناعة، وإنما البحث عن «دعم» مالى ما، متعللين بأن الأفلام زتخسرس نتيجة القرصنة التى لا تتيح لهم الحصول على حقوقهم، والغريب إنها القرصنة ذاتها التى تتعرض لها اليوم الأفلام الأمريكية وعلى أوسع نطاق، فى عصر أصبح الحصول على الفيلم على الإنترنيت أمرا بالغ السهولة، ومع ذلك فإن السينما الأمريكية تكسب عشرات المليارات. إن الأمر يبدو لى كأن كل طموح صناع الأفلام، بهذه الرؤية المحدودة، ينحصر فى أن يحصل كل منهم على دعم مالى من الدولة لكى ينجز مشروعا ما، وبعدها فليحدث ما يحدث، وأن يقترن هذا الطلب أيضا بألا تمارس الدولة دورها فى الرقابة على الأفلام، أى أنهم يريدون من الدولة عسلها، دون أن يتعرضوا لقرصات النحل. وإذا كان هذا الأمر يبدو للوهلة الأولى مطلبا مشروعا لكل فنان، فإنه أيضا يمثل رؤية ناقصة إلى حد كبير، فيما يتعلق بصناعة ذات طبيعة «مؤسساتية» مثل السينما، وكل تاريخ لحركة سينمائية ناجحة فى العالم يؤكد أن هذا النجاح كان يحدث عندما يرتبط الفنانون فى مؤسسة ما، وأن هذه الحركة تتحلل عندما يتفكك بناء هذه المؤسسة. قد تكون هذه المؤسسة من النوعية التى نسميها زالقطاع الخاصس أو تحمل اسم التدليل المعاصر زحرية السوقس لكننا فى الأغلب نتجاهل أو نجهل أنه حتى فى أعتى الدول الرأسمالية تقتضى بعض الأمور تدخل الدولة. ولعل أشهر مثال على ذلك، ومنذ الأيام الأولى لتكوين شركات السينما الأمريكية، هى الدعوى القضائية التى رفعتها الدولة (نكرر: الدولة) ضد شركة باراماونت وشبيهاتها، لأن هذه الشركات تمارس الاحتكار، إذ تجمع بين إنتاج الأفلام وتوزيعها وعرضها، بما يمنع الصغار من أصحاب هذه المشروعات عن المنافسة، وبالفعل أصدرت المحكمة الأمريكية العليا قرارها بأن تتخلص شركات الإنتاج من أذرع التوزيع ودور العرض الخاصة بها، وهنا نسأل: لماذا لم يجرؤ صناع السينما المصرية، الذين ينادون الدولة بعدم تقييد حرية الإبداع، أن يطالبوها أيضا بتطبيق قوانين منع الاحتكار، والكل يعلم أن هذا الاحتكار من أهم أسباب أمراض السينما المصرية، صناعة وإبداعا؟ من ناحية أخرى، فإن «الدولة» لم تمارس حقها أو دورها فى منع هذا الاحتكار، ولا ندرى سببا لهذا التقاعس، الذى يؤكد مرة بعد أخرى أننا نأخذ من النظم الاقتصادية شذرة من هنا وأخرى من هناك، وكان الأجدر إن كنا نؤمن حقا بحرية السوق أن نمنع أى ممارسة احتكارية، لأنها وببساطة بالغة تعوق الصناعة (والفن أيضا) عن التطور والنمو. لكننا من ناحية ثالثة نؤكد أيضا أن حرية السوق ليست قدرا لا فكاك منه، فكل بلد يختار ما يناسب ظروفه من النظم الاقتصادية، وإذا كان للدولة دور يمكن أن تمارسه فى «دعم» صناعة الأفلام ماليا، فهناك الآن من التجارب العالمية ما يشير إلى الحل. أرجو أن تجرب مشاهدة «التيترات» الأخيرة فى الكثير من الأفلام الأوربية وأفلام أمريكا اللاتينية (وحتى الأفلام الإسرائيلية)، وأن تعد العدد الهائل للجهات المشاركة فى التمويل، وهو ما يقلل نصيب كل جهة أيضا فى الحصة التى تشارك بها. هل تعرف ما هى الجهة المسئولة عن توفير هذا الدعم؟ إنها وزارات التعاون الدولى، التى يفترض أن من بين أدوارها الأساسية البحث عن مصادر لتمويل المشروعات، بما فى ذلك الأفلام. يبقى لتحقيق ذلك، إن تحقق، هو أن يُقدم هذا الدعم لمشروعات ذات طبيعة خاصة، على الأقل لا تنفق الجانب الأكبر من ميزانياتها على النجوم، وألا تزيد ميزانية الفيلم عن الحد المعقول، لكى يتسنى إنتاج عدد أكبر من الأفلام، وأن يُسن قانون حتى ينفخ الله فى صورتنا ونطبق منع الاحتكار يقضى بأن تخصص كل دار عرض أسابيع لعرض هذه الأفلام، لكن ذلك كله مرهون بأن نملك الجرأة على تحديد المسئوليات، عن ذلك التدهور المفزع، لصناعة وفن السينما المصرية. لمزيد من مقالات أحمد يوسف