1 باب الراحلين تجرفك جموع المعزيز.. يسبقنا نعش سعيد طعيمة كأنه يطير . من أين انصبت تلك الحشود. كتلة نساء هائلة تقف على اليمين تتناوب العويل والبكاء. تلمح فكري شحاته بجوارك حيناً أو إيهاب إمام مرتبكاً. ما الذي جاء بنا من القاهرة إلى منيا عروس؟ القلب الكبير والرجل الخلوق يخدعنا على غير عادته لينسحب من بيننا. تهصرك الأجساد فتتأخر شيئاً فشيئاً من التقط البيضاء التي يطير فيها النعش. نتخيل جناحين يطيران بالنعش أم حقيقة؟ ستخاطبه دوما باللقب المحبب «مولانا»، تستشيره تستمد العون معه.. تتكأ على حنانه. تمازح الصديق الذي عين معك في نفس اليوم: الصلاة وراك ب 47 حسنة.. يشع وجهه المضئ سرورًا. يهون عليك مكائد الزملاء وألاعيبهم، هو أو من يصل إلى القسم. يخرج من المشفى لحضور اجتماعاً ثم يعود إليه. لم يبح يوما بحقيقه مرضه. أثر أن يحتفظ بالمعناة كلها لنفسه لم يكن بالمسجد الفسيح مكان لمصل آخر – مكثنا ساعتين حتى صلاة العصر. كنا متبرمين لتأخر الدفن، ولكن سلو بلدهم أن تشيع الجنازات بعد صلاة العصر. أرمق موضع الجثمان وراء الستارة. أقاوم رغبة لحوح أن أكشف وجهه وألثمه. المح في وجه سعيد خليل وعلى السيد وأحمد شلبي لوعة حقيقية. ثمة سر في هذا الريف لا ندركه نحن سكان العاصمة. يمارس الناس أقدم احتفاليه جماعية ابتكها المصريون القدماء: الموت. للموت حضور وللحياة احتجاب. ثمة تبادل للأدوار. تلكأت في الذهاب إلى المشرحة سيناريو قديم تكرر في هذا المستشفى الكئيب من سعد مرسي إلى عبد السميع وعبد الراضي ومحمد غنيمه والسعيد عبد المقصود وحامد زهران. نصل إلى المقابر بعد عمر من السير يتقدم ملتح مهيب الطلعة آمرا: أدعوا له فأنه يسأل الآن.. اتخيله يطل علينا بوجهة البسام، ثم يرفس كفنه، ويقوم منتصباً بوجهة المنير وطلته المحببة. هذا القبر .. تلك المستشفى.. تلك المشرحة.. الكارهة للحياة.
2 باب الحنين
أحن إلى وجه أمي وحكمة أبي.. سيصفك حسان محمد حسان بالفيلسوف الغامض. وستلمح معلمتك في المدرسة الابتدائية الشبه بين قصة شعرك وقصة شعر جون كيندي ، ستحزن عندما اغتالوه لأنك تشبهه في ملمح ما. سيتوزع أعجابك بالبطل بين شكري سرحان وأحمد مظهر، سترمق مشدوها إزاء الأداء العبقري لذكي رستم.. ستختزن أعماقك بريق محمود مرسي. تحن إلى أشيائك الصغيرة: شاشة سينما بارك الصيفية بميدان السكاكيني.. رائحة الزيت المدهون به جدار فصلك بمدرسة صقر قريش الابتدائية. طلة عبد الناصر بذراعيه الملوحتين في السيارة السوداء المكشوفة تقطع شارع رمسيس أمام منزلك. روايات أرسين لوبين التي تكدسها.. سلالم مكتبة البارودي العامة بشارع العباسية.. طابور الصباح المضيف بمدرستيك الحسينية الإعدادية والثانوية، وأنت تقف حكمداراً أمام الطابور. مشوارك الليلي لشراء الطبعة الأولى من جريدة الجمهورية.. خطوات ميرفت التي ترصد ما قبل أن تظهر أمامك.. صور ممثلي هوليود الملوثة في محل عم بطرس لتصليح الأحذية بشارع السكاكيني. أعوجاج حروف الخواجة فيليب اليوناني البقال بشارع السكاكيني . رائحة عرقك التي تغطي مسامك في مباريات الكرة الشراب بشارع الفحام. القامة الفارهة لمعلم الرياضيات/ محمود صقر بالثانوي، والقامة السمهرية لشيخك حامد عمار.. الإيقاع الموسيقي للدكتور محمد الفولي في محاضراته ، صرامه أستاذة الفلسفة بالجامعة نازلي إسماعيل.. الحزن النبيل الذي يغلف كلام صديقك مصطفى عبد الغني صمت أستاذك فؤاد أبو حطب الحكيم. صخب شارع النزهة ونظافة وهدوء شارع الشرفا قعقعة ترام (17) الأصفر يخترق شارع السكاسكيني متجهاً إلى الجماميز الأزرق المطلي به زجاج البيوت في حرب (67).. رنة غناء أبي لأخي صفوت بصوته الودود.. زقزقة شقيقتك الراحلة آمال تلعب بعروستها قبل أن تقطف زهرتها في الثالث من العمر. الشريان الأزرق المموسق في وجه هدى حبيبه سنوات الجام .
3 باب الانكسار
عندما لمحت صورته محافظا لمحافظة حدودية اجتاحك جزن مختزن ، كنت مشبوحا في غرفة تحقيق باردة . خطفوك داخل سيارة إلى بناية مجهولة معصوب العينين: تنال عشرات الصفعات والركلات المدربة فوقك وأنت عاجز مكبل اليدين. ستسمع صوته الأجش «لماذا تهاجم الرئيس المؤمن؟.. كانت مقالاتي الساخنة في مجلات الحائط تستقطب المزيد من طلاب جامعة عين شمس الغاضبين في منتصف السبعينيات. يصلون بك إلى نقطة فقدان التوازن. تشعر بالقهر وأنت تحارب أشباحاً يرونك ولا تراهم. تقف عاري الجسد ولكن ثمة أتون قوة ينبعث من داخلك قوتهم المفرطة آية ضعفهم وانكشافهم. بعد ثوان يبدأ العرض الكامن يأمر الرائد سعيد سلطان : هاتوها.. حركة تدافع أصوات متنوعة . - عروها أحاول استيعاب الموقف وتحديد هويتها. أصوات مقاومة وصوت ثياب ممزقة وأهات استرحام انثوة مكتومة. يعوي سعيد سلطان بفحيحه: - أبسطوها. يلتفت إلي .. سقيم على وصلة على شرف زميلتك المومس.. من يقصد يستكمل : ألا تعرفها: نعيمة رجب. الرفيقة التي تتصدر المظاهرات، وتقاطع المحاضرين المتلونين في قاعة المحاضرات وتلهب الجناحر بصوتها في المسيرات، وتخصك بنظرته مميته. - أصرخ : كلاب (تراك) انكفئ مسحوقا. مأمأة الفتاة. صوت أحتكاك أجزاء أجساد تمزيق ملابس وصوت حزام يفتح وسوسته تنسل. لأ.. لأ.. خونه. تراك.. أنكفئ متعثراً.. تقاوم الفتاة ملتاعة وترفس بقدميها.. هي لكم .. يتناوبوا عليها.. تنزاح العصابة قليلاً من فوق عيني.. ألمح وجه أمرأة غريبة مكممة تندمج في التمثيل وهي تقاوم مغتصبيها.. أحمد الله.. لم تكن زميلتي نبيله.. املأ فمي وازم شفدتي في بصقة دمومية هائلة تملأ وجه سعيد سلطان صفعه جديدة.. إظلام.. انسحب إلى عالم آخر.
4 باب الفتنة
- ما فتني المال قط.. كنت شاباً مندفعاً.. أحلم بتغيير العالم ، وقبل أن اقنع بتلوينه وخربشته لا حقاً.. طاردتني الحسناء الخليجية. تملك مفاتيح الجاه الأميري، وتنطوي علي كنوز الفتنة وحبائل الغواية.. كانت عيناها السودوان الواسعتان بابا للعمق والابتلاع، حمدح العشرينيات من العمر. قالت : فلنتزوج وسوف تحمل مفاتيح قارون. أجبت: لا شئ يهم، لدى همومي وأحلامي. تزوجت القضية. - أي قضية يارجل؟ أجبت مترددًا : القضية يا أميرتي ، وهل هناك غيرها. استيقظت يوماً، ولم أجدها على مقربة، استقلت طائرتها وطارت شرقاً إلى وطنها ما اشتهيت اللحم الحرام قط هل كانت الثانية أم الثالثة صباحاً؟ استيقظت على نقرات مموسقة واثقة على الباب.. نفضت أخطبوط النوم الشتوي اللذيذ. فتحت الباب دون سؤال.. صمت شارع شهاب المريب. موجه من الشعر السو المنسدل تحيط بوجه منحوت من حسن وبها.. هجمة عطر نفاذ تؤسر اللباب.. دفعت المرجة منكبي واندفعت إلى الداخل. مساء الخير بل صباح الخير.. خير؟ أنا الخير كله .. أعرف إنك تقيم بمفردك؟ غالبت إغراء التثاؤب - اخطأت الشقة والمقصد .. تفضلي.. لست منهم.. لمحت مقعدًا ، أخرجت سيجارة وقداحة وأشعلتها.. دارت بعينيها في المكان. ما بين الرجاء والأمر سألتني أن تكمل سيجارتها. وضعت ساقاً فوق ساق كاشفة عن خبئتها.. جدحتني بنظرة فاحصة تقويمية تسبر أغواري بدا أرنباها البيضاوين مكورين بحلمتين متمردتين.. تآكلت دقائق ، تبادلنا نظرات التحدي، وبدا أن «صراع قد حسم لي.. أنتهت من سيجارتها.. - لا بأس ..أشكرك. - دفعت بقامتها الهيقاء إلى أعلى مقترعة هواء المكان الراكد، حملت حقيبتها مختفيه وراء الباب بعد أن أغلقته برفق ، حدجتني بنظرة غامضة كلية كأنها توقيع شخصي.
5 باب الندم
غلبت كلب الشهوات حينا ويغلبني حينا. غوتني فتنه الحب والحزن والشهرة ، ولكن لم تغوني فتنة المال والسلطة والجنس ، أهدرت فرصاً سنحت لي. ركلت عروضاً وترشيحات وجوائز أنكرت الحال فاعتزلت الناس أبكرتني الشوارع التي أبريت أحذيتي شاباً عندما أمر بها كهلاً. تأخرت على لقاء محبين وأصدقاء وأقارب حتى رحلوا أوسائط خلت احوز الدنيا فإذ بقبض الريخ أوؤب به. نسيت مواثيق وعهوداً. بعت أطفالي في سوق البلهى ووأدت قبيلة من البنات ولدن.. أنكرت الكرومسوم y، وحملت أمهاتن عار القبيلة. كتمت بوحاً ما كان يجب أن يكتم وبحت باعتراف لم يستحق أن تنتبه الشقاء. أبصرت الضوء فأغمضت عيني . آه لو أبصرته وتبعته، انفعت مالا في وجوه العبث وضيعت ديونا لم أطالب بها، وحدى أسرجت خيل المعرفة لمن لا يود ، وكشرت وجهي لمن تاق إلى كلمة تواد. ضيعت صلوات، سطرت صفحات لا تستحق مداها، وقوت أسفاراً كان يجب أن أكتب. اسلمت للريح سري فأذاعته في الأنحاء، اقرضت من لم يف ، واقترضت ممن لا يسترك. سددت حسابي للبشر مالا وعرفانا، وشكراً، وفاتني أن أسدد حسابي لخالق الخلائق لم أذق الخمر – ولكن أدمنت خمر الحزن، وأسكرني خمر النسيان وعفرت وجهي بتراب الندم فغسلني مطر السماء رغماً عني ، وطهرني
6 باب التقوى
حانت صلاة الجمعة استمرت جلسة المؤتمر في المدينة التونسية.. لم يتحرك أحد.. لم يهتم أحد أسأل عن مسجد قريب من القلعة التي نقيم فيها – لا .. على بعد عشرة كيلومترات.. صورة الرئيس زين العابدين في كل مكان، تصعد إلى غرفتك وتصلي الظهر. تحية صلاة الجمعة في المدينة الألمانية البعيدة.. تتخبط مع رفاقك في الشوارع الباردة بحثاً عن مسجد.. لا أمل.. تصادف شاباً جزائرياً تسأله عن المسجد.. يصف لك شارعاً جانبياً متوارياً.. يتجدد الأمل يصلان أخيرا.. وجوه عربية تزحف من كل صوب: مسجد على مساحة جامعة أرض كامل من البناية – يشيخ أزهري معمم ويريدي الزي الأزهري يلقي خطبه رائعة.. بعد الصلاة يلتف حوله المصلون يستفتونه.. ثمة عربة شطائر فلافل شامية نأكل في تلذذ. من يصدق أن هذه البنايات العدائية تحتضن مسجداً مخفياً. صلاة الجمعة في مسجد جامعة السلطان.. يمر عليك شاكر فتحي أو همام بدراوي أو عادل سلامة بسيارته إلى المسجد.. قبة ذهبية هائلة تميزه، شتات من جنسيات مختلفة.. حالة خشوع تجاملة.. ينكب كل على مصحفه.. ينفتح الباب الجانبي ليدخل الخطيب يزين جلبابه خنجر لامع يفرد المطوية ويقرأ الخطبة الموحدة المكتوبة.. صوت سقوط الجليد لا ينقطع .. توس نفسك في فراش الصدق بمدينة أنقره تستعد لنوع حافل من جلسات المؤتمر. يقتحم نومك أذان الفجر.. صوت خاشع عميق المنبرات لم تسمع من قبل تعتدل جالساً.. يعتقل أذنك خشوع وصفاء المؤذن التركي المجهول.. تملأ مسامك راحة كونية.. تقف لتغتسل وتصل في غرفتك أقف صامتاً أمام قبر صلاح الدين بدمشق.. اتخيل ملامح البطل الأسطوري.. أسأل نفسي: لو عاد في زماننا فهل سيلتفت إليه أحد.. ليل بغداد القارص البرودة. أحدق في ضريح الحلاج المغرق في الصمت والغموض بالضاحية البغدادية .. استوثق من محدثى فيشير إلى اللافتة.. ليل بغداد القارص البرودة. أسأل الحلاج صامتا: أين تركت صديقك بشر الحافي؟ استصرخه: هل أدركت الحقيقة ياحلاج؟ أكاد أخبره: مات صديقك صلاح عبد الصبور في مشاحنة مؤلمة مع أصدقائه. هل قابلته في البرزخ؟ من اتقصى أمام قبر الحلاج : الصوفي أم شاعرنا الحزين؟
7 باب الأبواب
أدخل لست مهيئاً لا مفر املهني يوما.. أسبوعاً.. شهراً.. عمرًا أمهلناك ولم تتعظ وحيداً عارياً متوضئاً أخط يقدمي باب الأبواب.. أبصرك اليوم حديد؟ أبصر لظلمات حولي .. يهصرني ضيق المكان.. يسحقني موت الزمان أنت الذي كنت.. هم الذين كانوا.. أثرت أسئلة.. ألقيت حصاة في بحيرة الأحداث.. اقترحات أهملوها أو احذوا بها. احببت وانكسرت وانتصرت.. ربحت وبذرت وانفقت وبدمت. احتقرت المال وأشباه الرجال.. لم تطامن رأسك.. بذرت بذور النوار في البيدر.. تفتح لوز وزهرات.. أغلقت أبوابا وسخت دموعك وحيدًا.. بعض دموعك صار حجراً وبعضها تبلور لآلئ وثريات. سرت طرقاً ودورباً وندمت.. وسلكت أبواب السؤال والرزق فاكتسيت بالمعرفة والستر.. أبليت محبين وواريت آخرين، فقدت أشياعاً وأنصارًا واريت اثرى حباها وعيواناً تنبض بالفرحة .. يا أنت.. هل قرعت الحرس؟ هل رفعت الراية؟ هل تعصيت قلبك تحسس قلبك.. تحسس عقلك .. تحسس ضوءك واغترف منه ينبوع الدهشة. أدخل سأدخل.. اجتزت الآن كل الأبواب.. أغلقوا باب الأبواب ورائي من فضلكم.