حينما قامت ثورة 1919 أعلنت المدارس الإضراب عن الدراسة وفي مذكراتها المعنونة ب«تاريخي بقلمي » أوضحت نبوية موسى ناظرة مدرسة معلمات الورديان آنذاك أنها رفضت فكرة الإضراب واجتمعت بالمعلمين والمعلمات لتقنعهم بوجهة نظرها. فكتبت تقول «فاجتمعت بالمعلمين والمعلمات وقلت لهم لست ممن يعتقدون أن الإضراب في المدارس مما يفيد البلاد بل أنا اعلم أن البلاد علي حاجة شديدة إلى التعليم وأن مهمة المتعلمين تثقيف الأمة ومقاومة الجهل». وعندما تم استغلال موقف نبوية موسى من الإضراب للتشكيك في وطنيتها كان ردها علي مغربي باشا كما تورده في مذكراتها كالاتي : «إن وطنيتي يا سيدي تقضي بعدم الإضراب لأني أريد أن اخرج أمتي من هذا الجهل المخيم علي العقول ..» بعدها بسنوات وتحديدا في ثلاثينيات القرن العشرين كتب طه حسين في كتابه الشهير مستقبل الثقافة في مصر «إذا أردنا الاستقلال فوسيلتنا العلم والتعليم وإذا أردنا الحرية فلنجأ إلى العلم و التعليم و إذا أردنا الكسب المادي فلنستعن بالعلم و التعليم وإذا أردنا الحياة الكريمة فلابد لنا من واحدة لا ثانية لها وهي العلم و التعلم»... والحقيقة أن رؤية نبوية موسي وطه حسين وغيرهما من رواد التنوير في القرن العشرين لم تكن وليدة اللحظة إذ كانت تبلور تاريخا طويلا من رؤي الفلاسفة والحكماء والرسالات السماوية عن فضل العلم ومكانة العلماء بدء من أول السور القرآنية نزولًا على رسول الله صلي الله عليه وسلم «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق».و «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»[فاطر:28].مرورا بأحاديث نبوية شريفة مثل «مَن خَرَجَ في طَلَبِ العِلمِ فهو في سَبِيلِ اللهِ حتى يَرجِع» وقول الإمام الشافعي «تعلّم فليس المرء يولد عالما/ وليس أخو علم كمن هو جاهل» ومأثورات كقول أرسطو «من لم ينفعه العلم لم يأمن ضرر الجهل» أو مقولة سقراط «إذا أردت أن أحكم علي إنسان فإني أسأله كم كتابا قرأت وماذا قرأت».. ولعلني لا أضيف جديدا عندما أشير لحقيقة أن فضل العلم والتعلم المًتجذر في الوعي الجمعي الشعبي أضفي علي من يفك الخط أو حظي بقشور علم أزهري مكانة خاصة، وهي حالة رصدتها الأعمال الأدبية بدءا من أيام وأديب طه حسين وما تلاها من أعمال لكثير من الكتاب المعاصرين ،وصولا لدراسات تاريخية عبر رصدها للحياة الفكرية المصرية في عصور الازدهار والخمول واكتشاف دور مجالس العلم والأدب في مصر خلال القرنين السابع والثامن عشر، دحضت الفكرة السائدة بأن تقدير المصريين للعلم بدأ مع غزو نابليون لمصر.. المشكلة أننا برغم هذا التراث العربي والإنساني الثري لا نزال حتى اللحظة نتعامل مع منظومة التعليم بأساليب لا تتناسب مع هذا الوعي بأهميتها لتبدو المُحصلة أشبه بالقص واللصق..!! يشغلنا المظهر لا الجوهر .. نهتم بالبنايات ونتجاهل ما يدور خلف جدرانها..يؤرقنا موعد تسليم الكتب للطلبة ونغفل عن محتوي صفحاتها التي تًشكل عقولهم!! و أستطيع أن أدعي أن جانبا لا يستهان به من أشكال العنف والإتلاف المتعمد اللذين شهدتهما الجامعات المصرية خلال العام الماضي كان محصلة طبيعية لهذه المنظومة، وأن اختزال تلك الأحداث في صورة احتجاج سياسي يعد تبسيطا مخُلا، يتجاهل مقدمات سطحت وعي البعض ففقد تواصله مع ثقافة مجتمعه وتراثه وإيمانه بثوابت الوطن والقدرة علي النقد والتحليل بمنطق عقلاني، ليصل الامر لحد تكفير الجامعة المصرية في عقر دارها في 2011 !! ففي في منتصف ديسمبر من ذلك العام وبعد أقل من عامين علي الاحتفال بمئوية جامعة القاهرة رصدت صفحة دنيا الثقافة بالأهرام اليومي واقعة استضافة كلية التجارة لأحد مشايخ التطرف. وتحت عنوان « في 2011 .. جامعة القاهرة تهدم الشريعة!!» ناقشت نص ما كرره الضيف للطلبة علي مرأى ومسمع الأساتذة وتأكيده «أن الغرض من تأسيس جامعة القاهرة هدم الشريعة الإسلامية» !! وفي ظني أن تلك المزاعم التي مرت مرور الكرام وعدم التصدي لقائلها في حينه ومن سبقوه في ذلك المضمار، وغيرها من الأحداث المشابهة، مضافا إليها عمليات حشو العقول بمناهج تعليمية تفتقر لوضوح الهدف والرؤى المستقبلية، ليتحول دور العلم لمعامل لتفريخ أجيال قابلة لتغييب الوعي، تًهدر قيمة العلم والمعلم، كان المقدمة لُمًحصلة عنوانها العنف وانتهاك حرمة مدارسنا وجامعاتنا ..بات التصدي لها فرض عين ..وللحديث بقية .. لمزيد من مقالات سناء صليحة