هفهفة الأشجار,هواء الخريف,صوت الحياة والناس,نبض الشارع,الدوشة,والزحمة,والأيام التى تشبه بعضها بشكل لا يشبه بعضه البعض.النيل فى آخر الليل,نور الشرفات الحميمة,والأغانى القادمة من حيث لا تدرى. القاهرةالمدينة التى لا تشبه إلا نفسها.تلك التى تسوقك إلى إدمانها,وتتذكر رائحتها أين ما ذهبت.النداهة التى تستولى عليك فتلغى ما قبلها وتجب ما بعدها.المدينة التى تصفعك بضوضائها وعشوائية نهارها,ثم تضمك بحنان إلى صدرها فى المساء وتقبلك بحيث لا ترغب فى حضن غيرها. القاهرة الوديعة حين تريد, الشرسة حين تغضب, والخطيرة حين تجن. كل شىء فيها ما يريده عقلك وروحك وبدنك.كريمة رغم كل شىء, لا تبخل إن استطاعت إلى ذلك سبيلا.تتدروش أو تفجر,تكون فنانا أو قاتلا, تضيع فى الحوارى أو تجلس فى فنادقها الفخمة, تذوب بين الجموع والحشود أو تقف لوحدك تتأمل ذلك كله يعود إليك فى القاهرة. لا يمكنك إلا أن تكون مصريا فى مصر. دون أن تدرى تتغير لهجتك وطباعك وطريقة تفكيرك وإيقاع حياتك. ونس مصر يأخذك إلى مناطق فى الروح والنفس يندر أن تصل إليها فى بلدان أخرى.وتتعلق بها أحيانا أكثر من أبناءها,وترى صنوفا من ضياء جمالها قد يغفل عنه أهلها.ومهما حدث لك فى مصر ,تغض النظر ولو بعد حين,تعيد ذلك إلى ظروف الحياة التى تزداد صعوبة,وأخلاق الزحام,تحولات الأزمنة الاضطرارية التى تفقدنا الأمان فى معظم الأماكن فى زمننا هذا. مصر كنز نفسها,وأمة العرب,والإنسانية جمعاء. مصر ونس العرب,والعالم.شىء ما فى الشخصية المصرية يميل إلى الإنسانية والحرية والحضارة رغم كل تشوه يجد.ومثقفو مصر وفنانوها هم كنز كنوزها.رحلة العقل العربى الحديث مرتبط بمصر,كما هو مسير الحضارة منذ البدء وحتى اليوم,فكلما فتشت عن رمز سيطر على نفوس العالم وجدت جذره ضاربا فى روح مصر القديمة,وعبر التاريخ.منذ فجر الضمير وحتى اليوم.فى مصر مفتاح الحياة وريشة ماعت والميزان الذى عليه وبه تعتدل كفة الأوطان المحيطة بمصر,وربما العالم. أختبئ فى معابد الأقصر ومتاحفها فأرانى كما كنت فى أبد الآبدين.تمشى روحى مع النقوش والصور والألوان والحروف فيلتئم كل ذلك الذى تقطع منى.أتجول فى سيناء واجلس على حافة جبل فيها وأرى سطوة الخلق والإبداع والجمال فأسمع صوت الله ساريا بداخلى وفى الحجر والرمل والشجر والماء وأركع شكرا تحت شجرة سدر هناك أو نخلة أو شجرة زيتون مباركة.ينهض فلاسفة الإغريق من تحت أمواج بحر الإسكندرية ويزداد شموخ الأنوثة بحفيف ثياب كليوباترا فيها.مصر العميقة, التاريخية, الروحية, الفنانة,المتحضرة.ما من مدى ليختزلها,وما من حاضر ليختصرها, وما من حقبة لتلغيها. فى كل هذا الخراب , والفساد, والسقوط ,والتداعى, والتفتت, وحقول الموت,والمؤامرات على الشرق يظل قنديل روح مصر هو الأمل.نعم الخراب والدمار مهول يضرب بمعاوله الحاضر,والماضى, والمستقبل فى ضربات دموية وقاسية ومتتالية. بين فكر همجى وماضوى وأسلحة حديثة فتاكة وتشوش فكرى وثقافى وحضارى وتكنولوجيا تعبث بالعقول وعولمة رأسمالية أمريكية متوحشة وصهيونية تستبد ومآسى شعوب يرصدها التاريخ تبقى مصر منارة تستدل بها الأرواح: أرواح أبنائها من المصريين, وأبنائها من العرب, وأبنائها من ضمير العالم. ولا فرار لمصر من دورها, ذلك هو قدرها وقدرتها. ليست مصر جردة حسابات ومعونات, ولا ثورات وإنتفاضات, ولا كادحين ومهاجرين ولا عمالة فى الخارج كما أنها ليست وجوه الفساد والاستبداد وضحايا السلاح والتفجيرات والإغتصاب والمخدرات والقتل العشوائى والسجون والمعتقلات. مصر روح الزمان فى المكان.كانت وستكون وتبقى.