على باب في سور قصير يحيط فناء يشبه فناء مدرسة، وقفت بانتظار ولد تركني ودخل. كان اصطحبني من موقف السيارات إلى هنا من غير أن أطلب منه أن يوصلني. فكرت بأنها ستكون رحلة شاقة أقطعها ثلاث مرات أسبوعيًّا لثلاثة أشهر. أعود بعدها بورقة مختومة تعني أن حاملها أدى الخدمة العامة. والتي هي محو أمية عدد معين من كبار السن. حصل بعضهم على هذه الورقة بغير مجيء، فالمكان بعيد عن المدينة. وهذا السفر مرهق، لكنني قلت.. أهي تجربة على كل حال. الطريق إلى هنا مدق ترابي يسع عربة واحدة. يمتد بمحاذاة ترعة. يتصادف عابر فيطيل النظر أولًا ثم يلقي السلام. وبعد أن يعبر يلتفت. كانت جماعات البط والأوز المختفية بين قمامة الترعة تتفرق فجأة حين ينزل الصبي بحذر لالتقاط شيء ما ويعود يتنطط حولي. باقتراب البيوت اتسع الطريق وصار يحده صفان من أشجار. كنا في الظهيرة حين بدت جمهرة من الأولاد والبنات في زي المدرسة. يتقدمهم ولد سمين يهتف.. يا حازانى. فتجاوبه الجوقة بطريقة منضبطة وهم يدقون على حقائبهم.. يا حزانى ى ى. يا سوادى.. يا سوادى.. يا سوادى ى ى. على هذا النحو ظلوا يهتفون إلى أن ابتعدوا. أمام أحد البيوت كانت بعض النساء الجالسات تحدقن. سألتني إحداهن.. عاوز مين؟ قلت متجاهلًا.. السلامو عليكو. قالت.. المجمع الجديد على طول ع اليمين. لم يحدث أن نزلت قرية بعيدة هكذا. رأيت مثل هذا في أفلام السينما فقط. كنت تلقيت تدريبًا حول «برنامج العمل» من كتيب به كلمات محددة. على الطالب أن يحفظها بأشكالها أولًا. بعدها أقوم بتجريد حرف وكتابته في أول ثم في منتصف ثم في آخر الكلمة، قالت المدربة أيضًا إن النساء عادة هن الأكثر استجابة والأسرع تعلمًا. فما دام الأمر كذلك فلماذا لا أتبع طريقة تخصني هذا ما قلته لها. أن أدعهن أولًا يحفظن كل حروف الأبجدية. بعدها أنتقي الكلمات التي تكتب كما تنطق. ونكتبها كاملة بغير أن نجرد أيًّا من حروفها. بعد ذلك نفرق معًا بين الحروف التي تتشابه في نطقها أو كتابتها كالزاي والذال والصاد والضاد.. وهكذا. كنت أراجع في عقلي ما تعلمت حين قطع عليَّ شرودي صوت امرأة عجوز تخاطب فتاة من بعيد ولا أراهما. يا بت بطلي تشيلي وتحطي. أنا عارفة هتدفي العريس إزاي بإيدين المقشات دول. بعد لحظات من الصمت أضافت خالك جاب لك برطمان مفتأة بالسمسم وأبوكي أعطاه جنيه ونص. بيقول لازم بنت أختي على فرحها تبقى أحلى عروسة في الناحية. قلت لنفسي مبتسمًا وأنا أتقدم لأرى ما بالحوش.. هل هذا هو المكان الذي سأعمل به؟ رأيت فتاة تحرك ذراع طلمبة في أقصى الفناء، بينما اختفت العجوز. وثمة صغار يلعبون الكرة بقرب رجل يضطجع في ظل حائط. خطوت أكثر، فتوقف الصغار عن لعب الكرة ووقفوا يتطلعون باتجاهي للحظات قبل أن يعودوا إلى لعبهم. واختفت فتاة الطلمبة داخل الدار. لم أعرف ما الذي عليَّ أن أفعله. ولم يسألني أحد هنا عن شيء. من قلب الدار خرجت فتاة صغيرة في جلباب قصير تحمل آنية بها غسيل لتنشره على حبل ممدود بعرض الفناء. حلوة الوجه، دخلت بالكاد عالم الأنوثة. راحت تزجر الأولاد ثم تلتفت وتشوط الكرة، وتنشر قطعة، وتلتفت مرة ثانية لتشوطها وتوجه بعض الشتائم البذيئة. غير أنهم لم يكونوا يأبهون، ويعاودون تصويب الكرة ناحيتها. كان الرجل المضطجع في خلو بال، يرتدي جلبابًا ممزق الطوق. له ذقن مهملة وعيون باهتة بياضها مصفر قليلًا كما لو كان مريضًا. بدا قوي البنية، أو كان كذلك قبل أن يحل به الوهن. بعد لحظات خرجت امرأة شابة مشمرة الذراعين ترتدي جلبابًا واسعًا لرجل. على رأسها عصبة ملونة تنزلق إلى جانب. بدا أنها تدخر دماءً كثيرة داخل عروقها. كانت تلتفت وتوجه كلامًا لفتيات لا يظهرن. ثم تناغشهن بكلمات صريحة. فأسمع من داخل الدار ضحكات أنثوية كثيرة. قالت.. منور يا أستاذ، مفيش كرسي؟.. إتفضل جوه. إلتفتت ناحية الرجل المضطجع توبخه بكلمات نابية على جلسته بهذا المنظر في وجود ضيوف، اعتدل الرجل مخرجًا علبة سجائر، وأرسل لي واحدة مع أحد الأولاد. صحبتني المرأة بكلمات الترحيب الروتينية إلى غرفة على يمين الداخل. بقيت فيها وحدي لا أفهم شيئًا مما يجري. إلى أن وقفت بالباب عدة فتيات تنظرن مبتسمات. سألتني إحداهن: هي الواحدة عندكم لازم تدخل و ف شوارها بدلة رقص؟ انفجرن ضاحكات وهن تملن على أكتاف وأيدي بعضهن. ثم توالت أسئلتهن من غير أن تدعن لي فرصة للإجابة. كن تردن الكلام فقط. ثم انصرفن لدى مجيء الرجل الوحيد الذي رأيته. جلس صامتًا فأحسست بالعزلة مع هذا المضيف البائس. بعد حوار قليل، بدا أن كل شيء قد حدث على سبيل الخطأ. فهنا يعدون لعرس قريب وقد ظنوني أحد الضيوف البعيدين. فاستأذنت خارجًا. بدا الأمر مشوقًا لي. فقد كنت في ذلك العمر مغرمًا بالقصص. مؤمنًا بأن أية قصة إنما يكتبها مجموعة من البشر وإن حملت إسم مؤلف واحد. وكان أن ترتب أمر مجيئي إلى هنا لأداء عمل معين. في أول حصة لي بالفصل، لاحظت أن النساء تدخلن هيابات، ثم تتجهن بعد ارتباك إلى الدكك الخلفية حتى إن الصف الأول من الدكك بقي خاليًا تمامًا. كانت منهن أيضًا من تظل واقفة حتى أطلب منها أن تجلس. ثم تتطلعن إليَّ، بل تفحصنني. في الحقيقة كنت أخفي اضطرابي. وأطلب منهن التقدم إلى الصف الأول. رأيت بعضهن تقرب عينيها من الرسوم المحفورة على الغطاء ثم تنظر حولها ضاحكة، بينما ترفع أخرى غطاء التختة وترى ما بداخلها. بمرور الأيام صارت لهن أماكن ثابتة يعرفنها. في المقدمة إلى اليمين كانت فتاة الطلمبة التي توشك على الزواج. سألتني بجدية.. ليه انت يا أستاذ اللي فكرت فينا؟ في الحقيقة لم أكن أنا من فكرت فيهن. بل إنه حتى لن يكون بمقدورهن أبدًا الاطلاع على ما يمكن أن أكتبه بخصوصهن. فبعد شهرين سوف أختفي من حياة هذه الكتل السمراء المصنوعة من العمل والحبَل والولادة والهموم والبهجات الصغيرة. ما فكرت به كان شيئًا آخر.. ما الذي ستفعلنه بعد أن تتعلمن القراءة والكتابة! ولم تكن لديَّ إجابة فأكثرهن تعملن في الحقول، أو البيوت، أو السوق. أما فتاة الطلمبة فكانت أصغرهن، وهي من تقوم وتمسح السبورة من دون أن أطلب منها ذلك. إلى أن فاجأتني ذات يوم بعد الحصة بسؤال وهي تريني كيسًا مليئًا بالشعر مثل غزل البنات شعري بيقع، ده كله وقع في شهرين. ممكن آخد له إيه! طبعًا لم أكن أعرف وشرحت لها سبب مجيئي إلى هنا. زينب، أم طارق، ندا، هداية، أم شريف، وصباح فتاة الطلمبة. أتذكرهن جيدًا من دون غيرهن. فكرت تكبيرًا للثقة بيننا أن أبني جسرًا إنسانيًا. لن يكون بالطبع من الكلام حول حرية المرأة وحقوقها وما أشبه. سأتفادى أيضًا المقارنة بينهن وبين من ألتقي يوميًّا من نساء وفتيات. تركت الكتاب المقرر وصرت أكتب على السبورة العناوين الكبيرة للصحف. بالطبع كان ذلك خروجًا على خطة العمل. نحاول معًا التعرف على حروف المانشيتات. حتى صرن وبسرعة من تصنعن من الحروف المفردة كلمات جديدة، تخترنها وحدهن. وكنت أحببت العمل. بمضي الأيام غابت صباح وتكرر غيابها. لم تكن هناك عقوبة لمن تغيب ولا مكافأة لمن تنتظم. لكنني شعرت بغياب واحدة هي الأسرع في التعلم. تحرك يدها وتتبع رسم النقط للحروف بدقة. وما أن تنهي الواجب حتى تملأ الصفحات الأخيرة بالرسم. كل رسومها بطات صغيرة متشابهة. اثنتان فاثنتان بينهما طبق طعام، وبطريقة واحدة مكررة. حين رأتني أتابعها قالت في خجل.. حاجة على أدي كده. فين صباح.. معدتش بتيجي ليه؟ اكتفت الحاضرات بالابتسام. غير واحدة رفعت يدها. ولم أكن سألت عن شيء يخص الدرس. قالت المرأة إنها كانت تظن الحروف كثيرة، كثيرة جدًا. وأن الذي يعمل كل هذا الكلام الذي في الكتب حروف بلا عدد أضافت في دهشة طلعوا 28 حرف اللي بيعملوا كل حاجة ف الدنيا.. في الحقيقة كانت أول مرة أفكر بأن ال 28 حرفًا لا تصنع الكلمات فقط.. بل كل حاجة في الدنيا.. كل حاجة.