توشك المرحلة الانتقالية علي الانتهاء بما لها وما عليها, تاركة وراءها خبرات جديدة ومهمة طرأت علي العملية الانتخابية من حيث البيئة التشريعية والإجراءات العملية والدور الذي لعبته فيها تكنولوجيا المعلومات, وفي فترة المخاض نحو الوضع الدائم تجددت المطالبات مرة أخري بالبحث عن المزيد من التطوير للعملية الانتخابية لتتم إلكترونيا قدر الإمكان, وخلال الأسبوع الماضي تشرفت بالحديث مع بعض نواب البرلمان ومسئولي بعض الأحزاب, ومع المستشار حاتم بجاتو بالمحكمة الدستورية العليا, حيث عبر الجميع عن رغبتهم في إدخال التصويت والفرز الإلكتروني في الانتخابات الرئاسية والاستفتاء علي الدستور, وكان الجميع ينطلق من غيرة وطنية واضحة ورغبة في الوصول إلي عملية انتخابية اكثر سهولة وسرعة ويسر وشفافية وثقة, معتبرين التصويت والفرز الإلكتروني وسيلة مهمة في هذا الصدد, ومع اتفاقي الكامل مع هذا التوجه وأهميته بالنسبة للوطن, فإن الأمر يتطلب من الجميع النظر إلي القضية نظرة شاملة, تتعامل مع العملية الانتخابية كمنظومة متكاملة, لا أن تركز فقط علي الاندفاع في تغيير قانوني أو إجرائي جزئي يعود بنا إلي نقطة الصفر مرة أخري.. كيف؟ الانتخابات ليست هي التصويت والفرز, بل عملية ممتدة تشمل سلسلة من الإجراءات تصل في بعض الأحيان إلي20 إجراء مترابطا يبن بعضها و البعض الآخر, وهو ما يحتم أن يكون دخول التكنولوجيا للعملية الانتخابية دخولا مرتبا مترابطا, وللتوضيح أشير هنا في عجالة إلي أن الإجراءات التي تشملها العملية الانتخابية تتضمن: 1- إعداد وتحديث قاعدة بيانات الناخبين. 2- دعوة الناخبين للاقتراع ووضع وإعلان الجدول الزمني للانتخابات. 3- تصحيح بيانات الناخبين وغلق قاعدة البيانات. 4- فتح باب الترشيح. 5- تحديد الدوائر الانتخابية ومواقع اللجان الانتخابية. 6- تلقي طلبات الترشيح. 7- وضع وتطبيق نظام للرموز الانتخابية. 8- إعلان قوائم المرشحين. 9- الطعون علي المرشحين وإعلان القوائم النهائية. 10- بدء فترة الدعاية الانتخابية ووضع القواعد المنظمة لها. 11- تشكيل اللجان العامة والفرعية ولجان الاقتراع والفرز والإشراف. 12- تلقي البلاغات والشكاوي المتعلقة بالعملية الانتخابية. 13- وضع القواعد المنظمة لعمل منظمات المجتمع المدني. 14- نقل لوازم التصويت إلي وجهتها النهائية. 15- تحديد هويات الناخبين والتحقق منها قبل وبعد التصويت. 16- التعامل مع الناخبين أصحاب موطن انتخابي مخالف. 17- الإدلاء بالصوت الانتخابي التصويت. 18- تجميع الصناديق والفرز والمراجعة. 19- إعلان النتيجة العامة. 20- الطعون الانتخابية تلقي الطعون إحالتها للمحاكم الفصل التنفيذ والملاحظ هنا أن التصويت والفرز إجراءان من بين هذه الإجراءات العشرين, وترتيبهما السابع عشر والثامن عشر, أي يأتيان في ذيل الإجراءات الانتخابية, ولا يعقبهما سوي إجراء إعلان النتيجة ثم تلقي الطعون والفصل فيها. وحينما ننظر إلي إجراءات العملية الانتخابية السابقة من منظور معلوماتي وتقني بحت, سنجد أن تحويل التصويت والفرز إلي الطريقة الإلكترونية, يحتاج أولا إلي الرجوع إلي الوراء في السلسلة السابقة, للتحقق من أن الطريقة التي تدار بها الإجراءات الستة عشر السابقة علي التصويت والفرز والإجراءين التاليين لهما, يتوافقان ويدعمان منظومة التصويت والفرز الإلكتروني حال تطبيقها, خاصة النصوص والقواعد المنظمة لإجراءات التحقق من الهوية قبل وبعد التصويت. وفي ضوء الخبرة العملية خلال الأشهر السابقة, يمكن القول إنه جري تحقيق خطوات هائلة في الانتخابات البرلمانية بعد الثورة, أهمها وأخطرها علي الإطلاق الأخذ بقاعدة بيانات الرقم القومي كمصدر وحيد لبيانات الناخبين, ثم الاعتماد عليها في بناء قاعدة بيانات الناخبين وما جري استخراجه منها من بيانات استخدمت في إنتاج كشوف الناخبين وتوزيع الناخبين والقضاة علي المقار الانتخابية, وفي نشر خدمات معلوماتية فورية للناخبين, وفي تصويت المصريين بالخارج وغيرها. بيد أن الإجراءات العشرين السابقة لا تزال تؤكد أن الانتقال للتصويت والفرز الإلكتروني يتطلب دراسة هادئة ورصينة علي مسارين: المسار الأول تشريعي قانوني, ويتعين أن يتم فيه مراجعة وتدقيق شامل لكل ما تقضي او تنص عليه القوانين ذات العلاقة بالعملية الانتخابية ولوائحها التنفيذية, وهدف هذه المراجعة هي الوقوف علي ما يوجد بها من نصوص تدعم أو تعرقل الانتقال للتصويت والفرز الإلكتروني, ثم تحديد ما يجب تركه علي حاله من نصوص, أو اقتراح ما يجب إجرائه من تعديلات أو إضافات من نصوص جديدة, لأنه من الوارد جدا أن تكون هناك إجراءات عملية منصوص عليها بالقانون تمنع أو تحول دون تطبيق بعض الإجراءات الفنية للتصويت الإلكتروني, واللائحة التنفيذية لقانون مباشرة الحقوق السياسية دليل واضح علي ذلك, والقوانين التي يجب النظر فيها هي: - قانون مباشرة الحقوق السياسية. - قانون تصويت المصريين بالخارج. - قانون الانتخابات الرئاسية. - قانون مجلسي الشعب والشوري. - اللوائح التنفيذية للقوانين السابقة. - المسار الثاني خاص بالأوضاع التنظيمية للعلاقة بين الجهة المشرفة إشرافا مباشرا علي الانتخابات وباقي المؤسسات والكيانات الداعمة للعملية الانتخابية بالدولة, لأن الانتقال إلي التصويت والفرز الإلكتروني يتطلب ضبطا دقيقا لهذه العلاقة, وتحديدا أدق للمسئوليات والصلاحيات المخولة لكل طرف تجاه الآخر, فالبنية التحتية التي ستخدم التصويت الإلكتروني, وكذلك فلسفة إنتاج وتدوير المعلومات خلال مراحل العملية الانتخابية وإجراءاتها ستختلف كلية عما يتم حاليا, وفي هذا السياق الأمر يتطلب إجراء مراجعة تنظيمية وهيكلية لأوضاع وأدوار الجهات الداعمة للانتخابات وهذه الجهات هي: - الإدارة العامة للانتخابات بوزارة الداخلية كجهة مسئولة عن تنفيذ عمليات الدعم اللوجستي للانتخابات علي الأرض, سواء بالنسبة للناخبين أو المرشحين أو المهمات اللازمة للتصويت. - مصلحة الاحوال المدنية بوزارة الداخلية, كجهة توفر البيانات الأساسية لقاعدة بيانات الناخبين من قاعدة بيانات الرقم القومي. - الجهات القضائية سواء المختصة بالإشراف اللجان العليا, أو المختصة بالفصل في الطعون المحاكم - وزارتا التنمية الإدارية الاتصالات كجهات تقدم الدعم التقني بمختلف جوانبه لعملية التصويت. - الإدارية المحلية والابنية التعليمية كجهات توفر المقار والدعم البشري للقضاة أثناء التصويت. وبنظرة مبدئية سريعة علي أوضاع هذه الجهات سنجد أن الأمر يحتاج قرارات جديدة لفتح الطريق نحو التصويت الإلكتروني, فمثلا هناك حاجة لإعادة هيكلة أوضاع الإدارة العامة للانتخابات وفصلها عن وزارة الداخلية, لتتحول إلي العمود الفقري الذي يعمل مباشرة وبصورة مستقلة تحت إمرة الجهات المشرفة علي الانتخابات, بكوادر ونموذج عمل يتبني من الأصل مفهوم التصويت والفرز الإلكتروني لا الورقي, والشيء نفسه بالنسبة لمصلحة الأحوال المدنية التي يتعين أن يعاد صياغة وضعها القانوني بالشكل الذي يسمح للبلاد بالاستفادة مما لديها من خبرات عالية ونادرة في مجال المعلومات المدنية, ولتتحول إلي هيئة معلومات مدنية مستقلة, تمد مظلة خدماتها لكل قطاعات الدولة وأنشطتها بما فيها العملية الانتخابية وعمليات التصويت والفرز الإلكتروني, وفي الحالتين قد يكون لازما إصدار قرارات أو قوانين منظمة في هذا الشأن. وفيما يتعلق بالجهات القضائية ذات العلاقة بالانتخابات يتطلب الأمر مناقشة هادئة وعميقة لدور القضاء في الانتخابات في ظل التصويت الإلكتروني والاتفاق بصورة دقيقة علي هذا الأمر, وما إذا كانت فكرة اللجان القضائية العليا المشرفة ستستمر بصورتها الحالية, أم تتحول إلي مفوضية قومية دائمة للانتخابات, تتولي شئون العمليات الانتخابية بالكامل طوال العام, وتكون بميزانية مستقلة, وتفرغ لجميع أعضائها وموظفيها, وترأسها لجنة قضائية مستقلة, وتنقل لها الموارد المتاحة للإدارة العامة للانتخابات بوزارة الداخلية, ثم يعاد صياغتها وبنائها لتتحول إلي كيان إداري تنظيمي يمتلك بنية تحتية تكنولوجية وموارد بشرية تدير جميع إجراءات العملية الانتخابية, وتسند إدارة هذا الكيان واموره التنفيذية إلي مدير تنفيذي محترف ومحدد الصلاحيات وفق قانون أو قرار إنشاء المفوضية الذي يصدر من البرلمان, ويعمل تحت إمرة لجنة قضائية عليا. اما وزارتا التنمية الإدارية والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات فيحتاج دورهما في هذه المنظومة إلي ضبط أشد دقة ووضوحا, فهما ستكونان مسئولتين علي الأقل في المراحل الأولي عن توفير البنية التحتية والتطبيقات والنظم المسئولة عن الخدمات الانتخابية بالكامل, بدءا من تسجيل الناخبين وحتي الفرز وتلقي الطعون, ولا مجال هنا إلا بإصدار قرارات من رئيس الوزراء مثلا, لها طبيعة فنية تحدد مواصفات ومستويات الخدمة التي ستقدمها الوزارتان للجهات المنوط بها تنفيذ الجانب التقني في العملية الانتخابية بما فيها التصويت, وتتضمن هذه الخدمة توفير شبكات الاتصالات والمعلومات والنظم والبرمجيات وتدريب وتأهيل الكوادر البشرية, والصيانة والدعم الفني وخلافه. هذه كلها أمثلة سريعة للمهام أو الخطوات التشريعية والتنظيمية المطلوب إنجازها أولا قبل أي تطبيق عملي للتصويت والفرز الإلكتروني, فهذه الإجراءات هي الأسس أو الركائز التي تمهد الأرض نحو هذه النقلة النوعية الكبري في طريقة أداء الانتخابات, وبدون تحقيقها علي أجمل وجه سيكون الأمر أشبه بحرق المراحل كما سبق التوضيح, وسيترتب علي ذلك عواقب غير مأمونة تؤثر علي مستوي نجاح التصويت الإلكتروني في تحقيق الاهداف المبتغاة من وراء تطبيقه, وهو وضع سيعود بنا إلي الوراء ولن يكون من السهل تجاوزة, بعبارة أخري لابد من إجراء تهيئة تشريعية وتنظيمية للإجراءات السابقة واللاحقة لعمليتي التصويت والفرز, بحيث يكون الأمر ضمن عملية تطوير شاملة ومنطقية, تنجح في تحقيق أهدافها, وتقدم للبلاد انتخابات جديرة بالثقة, والأمر في النهاية ليس صعبا أو مستحيلا, وإنما يتطلب منهجية عمل واقعية وواضحة, وبالإضافة للتهيئة التشريعية والتنظيمية هناك مهمة أخري تتعلق بمتطلبات وتحديات التطبيق التقني للتصويت الإلكتروني علي الأرض, وهذه قضية أخري نتناولها الأسبوع المقبل.