مضي الوقت الذي كان الناس فيه يتجادلون حول جدوي وضرورة الحرية للإبداع الإنساني. وأصبحنا الآن في عصر يؤمن الجميع فيه بأن الحرية هي صنو الإنسانية, فالإنسان لا يعد إنسانا بحق إلا وهو يشعر بالحرية. من حرية الإرادة إلي حرية القول والفعل, إلي حرية التفكير والعقيدة, وأصبح من نافلة القول الآن أن الشعور بصور الحرية هذه لا يكتمل إلا في حياة اجتماعية ومدنية يتمتع فيها الإنسان بحقوقه السياسية كاملة, من حق المواطنة والملكية, إلي حق العمل الحر والمشاركة السياسية التي تتيح للجميع حرية إبداء الرأي وتكوين الأحزاب والمشاركة فيها, إلي حق الوصول الي أي من المناصب السياسية عن طريق الإقناع من جانب المرشح, وحرية الاختيار من جانب الناخب. وعادة مايزداد شعور الإنسان بالحرية في عصر الثورات, حيث تزال الحواجز والحدود التي كانت تفرضها القوانين والنظم التي ثار عليها الثائرون. وعادة مايرغب الثوار في إزالة أي صورة من صور القيود التي قد تفرض هنا وهناك لضبط النظام وتنظم إيقاع الحياة الاجتماعية والاقتصادية للدول في عصر الثورات. وهنا يكون مكمن الخطر حيث إن الثورة علي النظام وقوانينه ورموزه وصور الاستبداد التي مورست في ظله لا يصح أن تمتد بالضرورة الي الثورة علي الدولة وكيانها ككل, فكيان الدولة هو نحن, واستقرار أوضاع الدولة حتي في ظل الثورة ينبغي أن يصان حرصا علي مستقبل مواطنيها الذين هم في الوقت ذاته ثوارها, وحملة مشاعل مستقبلها الذي هو في ذات الوقت مستقبلهم, ومن هنا وجب مناقشة معني الحرية في ظل الثورة, وهل هو صنو الفوضي الذي نراها تطل بأعينها الآن بين الحين والآخر في صورة مطالب فئوية مرات, وفي صورة رفض لقرارات صادرة من الحكومة مرات اخري, بل في صورة رفض الخضوع لأي قانون مرات عديدة, وكأننا أصبحنا نشعر بأننا حينما تخلصنا من الاستبداد السياسي نريد في ذات الوقت التخلص من ربقة الخضوع لأي قانون كان, ولأي سلطة كانت!! إن التخلص من الاستبداد السياسي لا يعني اطلاق الحريات بلا حدود, لأن ذلك من شأنه الإضرار بالجميع, لأنه قد يتخلص الناس من الاستبداد السياسي من فرد حاكم او طبقة حاكمة ليستبدلوه باستبداد بعضهم بالبعض, استبدادا يحول المجتمع من مجتمع منظم يحقق غاياته عبر ايجابية أفراده ونشاطهم في كل مجالات الحياة, إلي مجتمع يرزح تحت نير الفوضي يسوده شريعة الغاب التي عبر عنها ووصفها توماس هوبز أشهر الفلاسفة الإنجليز في مطلع القرن السابع عشر بأنها حالة حرب الجميع ضد الجميع التي يشعر فيها كل فرد بأن الآخر كالذئب الذي يتربص به. ان للحرية حتي في ظل الثورات حدودا ينبغي الا يتعداها اي انسان, فالحرية مرتبطة بداية بضرورة احترام حريات الآخرين اذ علي اي فرد ان يحرص علي حريات الآخر قدر حرصه علي حريته, وأولي هذه الحريات وأهمها حرية التعبير وحرية الاعتقاد اذ لاينبغي تحت اي مسمي ان يحاول احدنا ان يفرض علي الآخر رأيا او عقيدة, فضلا عن ان يحاول منعه من التعبير عن رأيه بحرية. ومن جانب آخر فإن الحريات المتساوية للأفراد ينبغي أن تقترن بمسئولية كل واحد منهم عن الدفاع عن حريات الآخرين, وعن النتائج التي تترتب علي الفعل الحر, فحينما تتحول الاعتقادات الحرة الي أفعال تظهر نتائجها, وينبغي ان تكون النتائج محققة لخير الفرد, ولخير المجتمع في آن معا. إن الإيمان بالحرية والتعبير عنها ينبغي أن يصاحبه الاعتقاد بحدود هذه الحرية, وكما نمتدح الحرية ونحب ممارستها بكافة الاشكال والصور, ينبغي ان نمتدح ايضا حدودها. والمسألة ليست كلاما يقال في مديح الحرية وفي مديح حدودها ومسئولية ممارستها, بل ينبغي ان يبدو كل ذلك واضحا جليا في سلوك الافراد, فالفرد الحر هو من يتصرف وفقا لحدود الحرية, مقدرا مسئولية أفعاله, ومراعيا مصالح الآخرين وحقوقهم في الحرية, فليس من المعقول ان امارس حريتي بالتظاهر والرفض من خلال قطع الطريق العام سواء كان شارعا يمر فيه الناس, او شريطا للسكك الحديدية يمر عليه القطار الذي يحملهم, إن هذه ليست حرية لأنها بالقطع لم ترتبط بالمسئولية ولم تراع أن حدود حريتي يتوقف عند التعبير والفعل الذي لا يضر الآخرين بأي شكل من الأشكال, وليس من المعقول كذلك أن ادعي الايمان بحرية الاعتقاد وأتظاهر رفضا لان يمارس الآخر حريته في العقيدة, في تضاهر المسلمون حينما يختار احدهم التنصر, أو يثور المسيحيون ويتظاهرون حال اعلان احدهم انه قد أمن بالاسلام. إن الإيمان بحرية العقيدة ينبغي الا يتوقف عند حدود الإيمان النظري, بل ينبغي ان يوافقه العمل بذلك. وان وافق الفعل المعتقد النظري ساد المجتمع بحق عدم التعصب لمعتقد ما أو لرأي ما, وأصبح كل شيء خاضعا للمناقشة, وأصبح من حق كل فرد ان يعتقد فيما شاء دون أن يصادر علي حق الآخرين في الاعتقاد بما يشاءون, ولم يعد لاحد سلطة التعدي علي آخر أيا كان فكره او عقيدته, بل سيحترم الجميع ارادة وحريات الجميع فيعيش الجميع حياة المواطنة الحقة في مجتمع حر يتمتع كل افراده بحق بحرياتهم, طالما ادرك الجميع حدود الحرية, وراعوا ذلك في سلوكهم. المزيد من مقالات د. مصطفي النشار