مع ثورة الكاسيت التى اجتاحت مدن مصر وقراها أوائل الثمانينيات وصل إلينا ، كنّا مجموعة من مثقفى القرية كباقى المجموعات المنتشرة فى قرى وأقاليم أخرى على أرض المحروسة الممتدة ، نسمع فيروز ولا نفهم كلمات الأغانى ، نلطم مع عبد الحليم ولا نملك حبيبات ، نسمع أم كلثوم لأنها تغنى قصائد صعبة، ونناضل مع الشيخ إمام ولا نعرف إيه القصة بالضبط ، ووصل « شبابيك «حيث» شجر الليمون .. وأشكى لمين .. والليلة يا سمرا .. وقد وقد ، كان الشريط لم نكن نعرف مصطلح ألبوم أسطورة صنعها الخيال وترجمها فنان اسمه يحيى خليل عائد من عالم الجاز ليكتشف حلاوة وروعة الموسيقى المصرية عند أحمد منيب وبليغ حمدى ،والكلمات لعم الشعراء فؤاد حداد وعبد الرحيم منصور ومجدى نجيب وبليغ حمدى ،والصوت شجى وجميل لشاب اسمر يشبه جنون الفقراء وأحلامهم اسمه محمد منير،والموسيقى حية نابضة لا تشبه ما نسمع من ألحان ،حتى إنها مازالت تُطرب روحى حتى الآن :« أشكى لمين واحكى لمين ..دنيا بتلعب بينا». وجيلى البائس الذى أحدثك عنه هو المولود فى السبعينات أوقبلها بشهور ، حيث لا هزيمة ولا انتصار ،ورثنا الناصرية بمنافعها والساداتية بكامب ديفيدها !، لا شىء يخصنا أو يعبر عناّ ،وأخيراً وجدنا كلمات تحترم الشعر والغناء ، وموسيقى مختلفة وغريبة تتسرب إلى الروح بشجن : «كام عام ومواسم عدو.. وفينك أنا من غيرك..» ، وتتحول إلى بهجة ورقص وسعادة فى « البنت قالت فستانى منشور على الشط التانى ..خدنى المراكبى وعدانى» ، وتندب الحظ وقلة البخت فى هذه الدنيا « أشكى لمين واحكى لمين ..ُتهنا سنين ولا عارفين بكرة جايب ايه لينا».
الزنزانة تناقلنا الشريط من بيت إلى أخر، لكن جلسات كل خميس التى كنا نتجمع لنسمع فيها « شبابيك « فى الغيطان وعلى شط الترعة مازالت تعيش فى الذاكرة ، كنا نكتب لنجمع ما يكفى لشراء أربع بطاريات كبيرة وكيلو عنب وشوية لب وفول سودانى وكام سيجارة فرط لزوم مزاج المثقفين الصغار الذين ينفثون الدخان فى السماء زهقا وبحثاً عن شىء لا يعرفونه (كل ده بجنيه ونص .. أه ) نتجمع على الجسر فى العاشرة مساءً ونتوجه فى صمت إلى الهدف وسط دهشة أهل القرية من عيال الأيادم دى! ، وفى الجلسات كنا نتفلسف حول معانى كلمات عبد الرحيم منصور وهل كان يقصد فلسطين بشجر الليمون الدبلان على أرضه ؟،أم يصف حال المحب والعاشق بعد فراق الأحباب !، وهل كان « مجدى نجيب » معتقلاً خلف القضبان ويرى العالم من شباك الزنزانة حين كتب «شبابيك »،أم ان خيال الشعر يصنع كل هذا الجمال لنرى الحياة من قريتنا الفقيرة ونطل من النوافذ والشبابيك على رائحة الحرية!، لكننا بوصفنا من كبار مثقفى القرية كنا نعرف جيداً أن عمنا فؤاد حداد كتب قصيدة طويلة بعنوان «الليلة يا سمرا» وأن فريق العمل المدهش اختار ثلاثة كوبليهات ،وأن مصرهى السمراء التى طلبت فستانها من الشط التانى من القناة فنهض المصريون وحطموا خط بارليف وعدى المعدى وعداها. وكبرنا .. وعرفنا مثلما عرف أقران لنا فى قرى ومدن مصر أن « شبابيك » من أهم التجارب المؤثرة فى مسيرة الغناء المصرى وأن الفريق الذى صنع كل هذا الجمال كان هبة ربانية جعلت كل هؤلاء العباقرة يتجمعون فى عمل واحد وأن فناناً مصرياً اسمه يحيى خليل نجح فى التحليق بالكلمات والألحان إلى عالم ساحر ومدهش يصعب وصفه بكلمات سوداء تقرأها الآن ، لكنك من الممكن أن تستمع به الآن وأنا أتمتم بصوتى الرخيم :« حطى اللى خلفك قدامك تلقى البلد عامرة الليلة» ، ويمكنك أن تسمعه فى«اشكى لمين »، وهى من ألحان العبقرى بليغ حمدى ، وهل يمكن الاقتراب أو الإضافة إلى لحن خرج من عود بليغ ؟! فعلها يحيى خليل واكتشف جانباً من عبقرية بليغ وانطلق بكل هذه الأدوات العظيمة من حنجرة استثنائية لمطرب استثنائى ومن كلمات وألحان إلى ذلك العالم السحرى.
قرار إزالة ! دارت بنا الأرض وتنقلنا فى أرجائها ومعنا أجيال أخرى بائسة وغير ذلك وظلت أسطورة «شبابيك » تتجدد كل يوم وتناسبنا جميعا ، لكن لماذا أزعجك بتلك القصص والحكايات عن شبابيك وجيلى البائس ؟ تسأل ،وأجيبك بأن هذا النوع من الفن الاستثنائى لم يأت من فراغ وليس لقيطاً ، بل جاء من رؤية وفكر منسوباً إلى آباء وأجداد لا يجوز انكار أحدهم أو محو دوره فى صناعة تلك الأسطورة ، ولم يكن لائقاً بالفنان محمد منير أن يرفع اسم « يحيى خليل » من الإصدارات التالية ل«شبابيك»!، فقد ظهرت أجيال لا تعرف أن أحد الأبطال الذين صاغوا هذا الفن الخالد تم إزاحته ! صحيح أن خلافات كبيرة قد حدثت لا أعرف تفاصيلها ولا يهم معرفتها ،لكن هذا لا يعطى الحق لطرف أن يرتكب تلك الجريمة فى حق طرف آخر ويكتب شهادة إعدامه! هل أبدو منحازاً ليحيى خليل ؟ نعم فهو جزء أساسى من الأسطورة التى شكلّت وعى أجيال وانطلقت بهم إلى عالم جديد من الموسيقى ، وحتى اليوم مازال الرجل فخوراً بتجربته مع منير سواء فى ( شبابيك الذى صدر عام 1981، أو فى «برىء » الذى صدر فى العام نفسه وبعدهما « اتكلمى »عام 1984) ، ولا ينسب إلى نفسه الفضل فى نجاح ونجومية محمد منير كما يروج البعض ، لكنه فقط حزين ، ليس لرفع اسمه من على شريط أو ألبوم فالتاريخ لا يسقط بأقلام الكريكاتور!، ولكن لشعور بالألم ،فقد كان يطمح إلى تكوين فرقة راسخة الأقدام ومتكاملة التقاليد الفنية يمكنها اختراق مسارح العالم وتقديم الموسيقى المصرية متجاورة مع موسيقى شوبان وبيتهوفن ،وكان بإمكان صُناع « شبابيك » أن يفعلوا ما هو أكثر ، لكن لا ضير كما يقول النحاة ، ويكفى ما بقى من تلك التجربة فى ذاكرة الأجيال حتى اليوم ، لا يحمل يحيى خليل بوجهه الأبيض المبتسم ضغينة تجاه أحد،وظل مخلصاً لأفكاره عن الفن ودوره فى تغيير المجتمع ونجح فى تحقيق حلمه وفتح نافذة جديدة جعلت موسيقى « الجاز » مصرية الروح ،وكان برنامجه الاستثنائى « عالم الجاز » الذى كانت تذيعه القناة الثانية بالتليفزيون المصرى وراء تشكيل ذائقة مختلفة راحت تتطور يوما بعد يوم وهى التى تزحف خلفه وتنتظر حفلاته
الجاز استوقفنى «يحيى خليل» ربما للشبه الكبير فى ملامحه مع الروائى الأمريكى « أرنست همنجواى» الذى كان مجنونا بالسفر والتنقل واكتشاف عالم الحيوانات والجبال ،وربما كنت أرى «يحيى خليل « كذلك فهو أيضاً ذهب إلى الغابات بحثاً عن الموسيقى فى آهات الألم ،عن الحرية تحت كرباج الجلاد ،فهناك على نهر المسيسبى تجمع خليط من أثرياء أوربا وشكلوا طبقة الأسياد ،واشتروا الزنوج من أدغال إفريقيا ،وأذاقوهم ألوان العذاب ، وفى المزارع والحقول والأحراش وفى قسوة البرد وصهد الشمس وغطرسة «الأبيض » المغرور ،كانت أغانى الأجداد هى الدواء !، ينطلق صوت محزون مقهور لتتجاوب معه أصوات الرفقاء تهون قسوة الحياة بالغناء، وأصدر «أبراهام لينكولن»1863 أهم قرار فى التاريخ بالغاء الرق،ووجد العبيد انفسهم أحرارا ومن حقهم الغناء والتجول فى الشوارع فصنعوا حالة جديدة من البهجة جعلت أصحاب الكازينوهات وعلب الليل يستعينون بهم ، فراحوا يرتجلون الموسيقى ويستخدمون آلات أجدادهم من الطبول الضخمة ،بل ويصنعون من آلات النفخ النحاسية التى خلفتها الحروب أعذب الألحان وانتشرت موسيقى الجاز وظهر لها مشاهير وأساطير ومنهم المصرى «يحيى خليل»..الذى عاد من أمريكا بعد خمسة عشر عاما بموسيقى الجاز مصرية الروح راقصة وملتهبة وشجية وعذبة
التائبات فى 1979 كان يحيى خليل عائداً من أمريكا مهووساً بفكرة تمصير موسيقى «الجاز » فقد عاش ربع قرن فى عالمها وعزف مع كبار مشاهيرها على مستوى العالم ، وكان فى كل يوم وعقب كل حفل ينظر إلى الجماهير التى تخرج من باب المسرح فى سعادة بالغة ويحلم بأن يصفق كل هؤلاء يوماً للموسيقى المصرية العظيمة ،وأن يزين اسم القصبجى وعبد الوهاب صالات المسارح التى تستقبل ملايين الشباب من عشاق الجاز على مستوى العالم كانت مصر الثمانينيات تشهد تغيرات جذرية فى مزاجها العام مع ظهور شركات توظيف الأموال وسيطرة ثقافة الحجاب والإسدال ، وتسرب ذلك إلى الفن والموسيقى بالطبع ، واهتمت شركات الانتاج بارضاء ذوق الطبقة الجديدة التى عادت من الخليج عقب كارثة غزو الكويت لتوظيف أموالها «بالحلال». وشهد الفن انهيارا مهولاً وامتد طابور الفنانات التائبات وظهرت فتاوى تستحل دم أهل الفن!، بينما كان جيل الشباب فى خلفية المشهد تائها لا يستطيع تذوق أغانى « إيه الأساتوك ده » التى أغرقت سوق الإعلانات ،وغير قادر على التعامل مع عبد الوهاب وأم كلثوم ،بينما ظلت قطاعات واسعة حائرة بين تحريم الفن تماماً أو الاستغراق التام فى عالم الموسيقى الأجنبية ، كانوا يحتاجون جسراً يصل بهم إلى بر الفن، وعندما رأيت يحيى خليل فى ميدان التحرير سعيت إليه ، كنتُ مهووساً بهذا الرجل الذى ارتبط فى وجدانى بتلك القصص، كان أنيقاً بملابسه الملونة المبهجة ووجهه الخواجاتى وروحه المصرية الخالصة، وتعددت اللقاءات حتى أصبح من حقى أن اسأله : لماذا الجاز ؟! وهو رجل أبيض البشرة عاش طفولته وشبابه فى رفاهية سمحت له بالسفر والتجول فى عدة عواصم أجنبية ؟ ضحك يحيى ، وفهم قصدى ، وقال : مثلما أراد الزنوج تطويرموسيقاهم وجعلوها عنواناً لثقافتهم وأجبروا الملوك والأباطرة على سماعها ، كنت أحلم بوصول التنغيم المصرى متطوراً إلى الشباب ، كنتً يقول يحيى أحمل مشروعاً كاملاً قائماً على دراسة «المزاج الفنى العام « لمعظم شباب مصر فى الثمانينات
كريشندو ارتبط يحيى خليل بمجموعة كبيرة من الأدباء والمثقفين وعلى رأسهم الراحل يوسف إدريس ، وخلال زياراته إلى القاهرة التى سبقت عودته نهائياً من أمريكا كان حريصاً على الجلوس إليهم لمناقشة تلك الأوضاع التى تلقى بظلالها على الفن والموسيقى والهوية المصرية بشكل عام ، وطرح عليهم مشروعه الموسيقى القائم على تجديد الدماء فى ألحان عباقرة الموسيقى وتقديم لون جديد يناسب روح الشباب والخروج بالموسيقى المصرية والعربية إلى العالمية ومزج الآلات الغربية مع المصرية ،وهى التوليفة التى صنعها بحكمة واقتدار موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب والذى أكمل بدوره مشروع الشيخ سيد درويش فى تطوير المزيكا المصرية ، ووجد يحيى خليل ترحيباً كبيراً ، وبدأ فى اختيار وتشكيل وتدريب فرقته المكونة من أربعة عازفين فقط « يحيى خليل وفتحى سلامه وعزيز الناصر ومايكل كوكيز»، ولم يتبق أمامه سوى اختيار مطرب للفرقة يحمل روحا مصرية وتطل من ملامحه موسيقى الجاز، وكانت المواصفات صعبة ،حتى ظهر هذا الشاب الأسمر النحيف القادم من النوبة بأحلام عريضة وبتراث موسيقى وغنائى ممتد الجذور. الجذور .. نعم هو ما يبحث عنه «يحيى خليل»، يريد إحياء موسيقى الجنوب البعيد كما فعل عباقرة الجاز وأجبروا العالم على التصفقيق لهم ، وكما فعل « إليكس هيلى» فى روايته المعروفة بنفس الاسم «الجذور»، وفعلها «يحيى» ونفخ روحاً فى « كريشندو » أو أغنية « قد وقد» التى كتبها « شوقى حجاب » حيث تتصاعد الموسيقى لتصنع طوقاً من الفل والياسمين مزينا بالكلمات حول رقبة الحبيبة: (قد البحر والسموات والارض ..قد الحَب والفراشات والورد .. قد ما خد م الازهار الخد ..قد ما مد الاحباب اليد .. قد وقد الدقات والنبض ..قد وقد الاصوات والرد..) منير قبلها كان قد ظهر فى «علمونى » و«بنتولد» الذى كان ثمرة تعاون بين مجموعة الكبار «أحمد منيب وعبدالرحيم منصور وسيد حجاب ومجدى نجيب»، وحقق نجاحاً لا بأس به ، لكن الطفرة الكبرى التى جعلته يعزف منفرداً ويتربع على القمة جاءت مع «شبابيك» بنفس فريق العمل تقريباً وبإضافة فرقة «يحيى خليل» بدلاً من «هانى شنودة».
الدرويش عبر رحلة طويلة حرص يحيى خليل على التميز ورفض الخضوع لمنطق السوق مخلصاً لأفكاره وثقافته الواسعة ، فهو مؤمن بأن لكل فنان بصمة لابد وأن تظهر فى كل عمل يقدمه للناس ،حتى فى السينما لم يقدم سوى ما يتناسب مع تلك الرؤية فهو صاحب موسيقى أفلام « أرض الأحلام» للسيدة فاتن حمامه التى أبدع لها موسيقى فيلم «يوم حلو ويوم مر» مع منير وسيمون ،وهو صاحب موسيقى برنامج « حكاوى القهاوى » المحفورة فى وجدان جيل الثمانينيات والتسعينيات. يصنع يحيى خليل فى حفلاته حالة من البهجة مازجاً بين روائع القديم ولمساته المدهشة بفريق مكون من شباب يجيد العزف والغناء والابتكار، وعلى المسرح يتحول إلى كتلة من الفن وتتوهج روحه كدرويش متوحد مع جماليات الموسيقى ، وما أن ينتهى من عزف مقطوعته حتى يفسح المجال لأعضاء فرقته فيسمع الجمهور عازف الناى والأوكرديون والجيتار والطبلة والرق ، وفى الأخير يمتزج كل ذلك من جديد ليقدم أشعار أحمد فؤاد نجم ومقطوعات من روائع عبد الوهاب وأم كلثوم وحليم ،ولم يكن غريباً والحال كذلك أن ينتظر الشباب فى مصر حفلات يحيى خليل بشغف وأن تمتلىء قاعة المسرح الصغير بدار الأوبرا عن أخرها تقديراً للفن الراقى فى زمن موسيقى التوك توك.