برحيل الشاعر العربى الفلسطينى سميح القاسم تنطوى صفحة شعراء المقاومة البارزين فى فلسطينالمحتلة، راشد حسين ومحمود درويش وتوفيق زياد وسالم جبران وآخرين لم يصلوا إلى ما وصل إليه هؤلاء. ممن حملوا لواء الشعر فى نهاية الخمسينيات من القرن العشرين انطفأت قناديلهم قبل أن ينطفئ قنديل زميلهم وصديقهم ورفيق دربهم سميح القاسم. عرف سميح القاسم شاعرا قبل أن يعرف كاتب مسرحية وقاصا وكاتب مقالة وكاتب رسالة، وظل يعرف شاعرا ويقرأ شاعرا، وإن انجزت عن قصصه الطويلة الثلاثة التى هى أشبه بحكاية من سيرته الذاتية، كما كتب هو، دراسات عديدة. وقد أقر هو فى سيرته الذاتية انها مجرد منفضة أنه شاعر بالدرجة الأولي، وإن كتب النثر بين فترة وفترة. وكان سميح القاسم، كاتبا وشاعرا، غزير الإنتاج، فقد أصدر أكثر من ستين كتابا أعيت متابعى نتاجه، بل واربكتهم وما زاد الطين بلة أنها صدرت بطبعات عديدة مختلفة لا تكاد تتطابق، فقد أسهم هو، وأسهم بعض الناشرين أيضا، بحذف نصوص شعرية وإضافة أخري، ما يجعل طبعات أعماله موضع دراسة لدارس يروق له تحقيق الأعمال الأدبية فى طبعاتها المختلفة. كتب سميح القاسم القصيدة القصيرة الأشبه بالأبجرام، والقصيدة الطويلة، والسربية/ المطولة، وهو الذى ذهب إلى أن مصطلح السربية من اختراعه هو، فالقصيدة الطويلة التى غالبا ما صدرت فى كتاب كانت تتموج فى حركاتها كما تتموج حركة سرب الطيور، وكتب أيضا القصيدة العمودية، فأصدر ما عرف بديوان الحماسة، وهو فى ثلاثة أجزاء تذكر المر بحماسة أبى تمام، ورافع سميح عن هذا اللون من الكتابة تحت عنوان «سوناتا جيدة» ومارش جيد، وربما ما شجعه على كتابة هذا اللون من القصائد هو انتماؤه للحزب الشيوعى الذى يركز على دور الأديب فى الحركة الجماهيرية والأخذ بيدها وتحريضها على واقعها من أجل عالم أفضل، وهو ما تطلبه واقع العرب الباقين فى فلسطين، هؤلاء الذين تعرضوا لاضطهاد قومى وتمييز عنصرى حارب الحزب الشيوعى من أجل الغائه، وكان لابد من توعية المظلومين المضطهدين وقراءة الأشعار على مسامعهم وهذا ما فعله سميح بامتياز، حتى أن بعض النقاد ذهب إلى أن الشاعر منبرى أشبه بخطيب. وظل سميح يكتب قصيدة المقاومة وإن خفتت حدتها مع سقوط الاتحاد السوفيتى وتفككه فى العام 1989، يومها أعلن سميح أنه لن يكتب الشعر، ونشر إعلانه فى مجلة «الناقد» اللندنية وكانت حجته فى ذلك أن المشاريع الثلاثة التى عقد عليها حياته قد أخفقت: المشروع القومى والمشروع الوطنى والمشروع الأممي. انتهى الأول بهزيمة حزيران 1967 وموت جمال عبدالناصر، ووصل الثانى إلى نهايته مع خروج منظمة التحرير من بيروت فى العام 1982، وأما الثالث فتجسد بانهيار الاتحاد السوفيتي. غير أن سميح مثل شعراء كثيرين يقولون ما لا يفعلون ولا يلتزمون دائما بما يقولون فقد واصل كتابة الشعر واستمر يكتبه حتى فى أوج مرضه، وأصدر مجموعات شعرية كثيرة لا يستطيع المرء حفظ عناوينها لكثرتها وكثرة ما كتب الشاعر ربما جعل بعض محبيه والمعجبين به يحجمون عن مواصلة قراءته ومتابعته، إذ يبدو ان هاجس الشكل الفني، وكتابة القصيدة التى تتجاوز سابقتها، واصدار الديوان الذى يشكل إضافة نوعية لا كمية، لم يكن هاجس سميح، قدر ما كان هاجس محمود درويش. وربما كان لكل واحد من الاثنين ظروفه، لقد اختلفت التجربة المعيشية واختلفت أيضا المرجعية الثقافية، خلافا لما كان عليه الأمر قبل رحيل درويش فى العام 1970. نشأ سميح شاعرا ذا حس قومى عروبي، وهو انتساب ما بدأ فى أشعاره الأولى التى كتبها قبل قصيدته «طلب للحزب»، وتعد قصيدته «ليلى العدنية» من ديوان «دخان البراكين» 1968 خير تعبير عن المرحلة العروبية القومية، تضاف إليها قصائده فى الثورات العربية الصاعدة فى الستينيات، وأهمها الثورة المصرية وقائدها جمال عبدالناصر الذى خصه بمديح، كما خص إنجازاته المتمثلة فى تأميم قناة السويس وبناء السد العالي: يا أسطى سيد، ابن وشيد، شيد لى السد العالي.. إلخ، وفى «ليلى العدنية» يبدو سميح مفعما بالروح القومية، ممتلئا بها ومنتشيا، يتغنى بالعروبةوبأمجادها وانتصاراتها، لكن هذا التغنى والانتشار سوف يتراجع كثيرا وقد بدأ فى بداية الثمانينيات من القرن العشرين حين حاصرت القوات الإسرائيلية مدينة بيروت ولم ينجدها العرب، وحين خرجت قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وتفرقت أيدى عرب فى السودان وفى ليبيا وفى تونس وفى اليمن وفى الجزائر.. وفي.. وفي.. وفى هذه الفترة يكتب سميح القاسم مجموعة قصائد ينشرها فى ديوان جهات الروح (1983) ومنها قصيدة تغريبة التى يهديها لمحمود درويش. ما عاد العالم العربى كما بدا فى «ليلى العدنية». شاءها الله سهية/ شاءها الله.. فكانت/ كبلادى العربية/ نكهة الغوطة والموصل فيها/ ومن الأوراس.. عنف وقمامة/ وأبوها شاءها أحلى صبية/ شاءها اسما وشكلا/ فدعاها الوالد المعجب: ليلي/ وإليكم أيها الإخوان.. ليلى العدنية». وانما غدا العالم العربى شيئا آخر/ وهو ما يقوله فى تغريبة: «يفرقنا العالم اليعربي/ ويجمعنا العالم الأجنبي/ ونبقى أجانب فى العالمين/ ويبقى الرحيل» وستصل ذروة شعوره بالخيبة من العالم العربى فى مطولته التى كتبها فى التسعينيات وعنوانها «خذلتنى الصحاري» فالصحراء التى تغنى بها فى الستينيات ومدحها، الصحراء التى كانت تقف إلى جانبه وتمد له يد العون، خذلته وما عادت تقدم له شيئا لم تتخل عنه وحسب بل وخذلته. والطريف أن الشاعر نفسه أخذ يتردد على عواصم الصحاري/ العالم العربي، والأكثر طرافة أنه أخذ يمدح رؤساءها وملوكها، وهذا ما بدا فى أحد دواوينه الذى جمع فيه قصائد تمدح هذه العاصمة أو تلك بل هذا الحاكم أو ذاك، ما يؤكد الصلة الحميمة بين سميح القاسم ومحمد مهدى الجواهري، ومن قبل المتنبي، وقد ذهب سميح إلى أن هناك صلة نسب تجمعه بالمتبني، مدح المتبنى كافور ثم ذمه، وكم مدح الجواهرى هذا الملك أو ذاك الرئيس، وأكمل سميح المهمة، هو الذى كان فى السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين شاعرا شيوعيا ملتزما يهجو النظام العربى كله. أهذا هو ما أغنى أشعاره وجعلها قابلة للتساؤل؟ ولم يقتصر الأمر فى شبابه أهو الملوم أم الواقع العربى هو الذى خذله أم لأنه الزمن والسن والعمر و.... و....؟ كانت عناوين دواوين سميح الأولى عناوين مقاومة متمردة «أغانى الدروب»،«دخان البراكين»، .. و «يكون أن يأتى طائر الرعد وغدت لاحقا عناوين مليئة بالخيبة والانكسار: «خذلتنى الصحاري»، و«أرقى مراوغة.. حرير كاسد، لا بأس».. ومع كل هذا فقد خسر الشعر العربى شاعرا مهما.