هذا زمن عربى تتشظى فيه مجتمعات، وتنقسم دول، وتُستدعى أجندات رسم الحدود من جوف الماضى البعيد. اضطراب العقل العربى يُخلًف رماداً من الحيرة. تلاقت الثورات بالحروب الأهلية فى مشهد عربى يستعصى على الفهم. اختلطت الأوراق. تداخلت تطلعاتنا المشروعة فى دولة الحرية والكرامة والعدالة مع أجندات دولية تبحث عن نفوذها ومصالحها. اليوم مباراة جديدة فى لعبة الأمم! وإلا من يفسر لنا ما يحدث فى العراق او ليبيا أو الجزء الغاطس فى سيناء؟ فى هذا الزمن من حقنا أن ندافع عن مصالحنا العليا. نعم جراحنا عميقة فى الداخل ودواؤها صعب ومر لكن هذا لا يجب أن ينسينا ولو للحظة المخاوف والمخاطر التى تحيق بنا. الآهات المنبعثة من داخل البيت الواحد لا يجب ان تحجب عنا مشهد النار المتطايرة حولنا فى الخارج. من هنا نحن مدعوون لطرح مفهوم الأمن القومي، وتحديد أولوياته، و توظيف الأدوات المتاحة للدفاع عنه وجزء من هذه الأدوات يبدو حتى اللحظة منسيّاً. لمصطلح الأمن القومى وقع رنّان يثير فى الذهن والنفس معاً معانى الوطنية والاستنفار والرهبة والقلق. هو فى جوهره تعبير عن المصالح الاستراتيجية العليا للدولة المصرية لكنه يُنعَت تاريخياً بالقومى مع أن الأدق وصفه ب«الوطنى» بالاشتقاق اللغوى العربى كما فى اللغات الأجنبية أيضاً . ومع ذلك فقد استقرت التسمية وشاعت ربما حتى لا تختلط بمفهوم الأمن الوطنى بمعناه الضيق المتعارف عليه. يتكرر المصطلح كثيراً فى خطابنا السياسى والإعلامى وبشكل خاص فى السنوات الأخيرة. هذا أمر طبيعى فى بلد يُطل عبر خمس نوافذ على خمسة عوالم جغرافية وبشرية وتاريخية. بلد ما زال مدعوّاً للنهوض بعالمه العربى والخروج به من أسر التبعية والتخلف والفقر إلى مركز حركة التقدم العالمي. مصر هنا لا تدعو نفسها عن تطفل أو ادعاء بل هى مدعوّة لهذا الدور بضرورات الجغرافيا والتاريخ وقدرتها على التأثير فى محيطها برغم ظروفها المعيشية ومعاناتها الاقتصادية وصعوبات مخاض تطورها السياسى والاجتماعي. لهذا كانت مصر وما زالت تثير مخاوف الأبعدين والأقربين فى كل مرة يلوح فيها مشروع نهضوى يؤذن ببناء دولة متقدمة وقوية. ولهذا أيضاً كانت ثورة 25 يناير المجيدة حدثاً عالمياً (قبل أن يكون مصريا) حاول الأبعدون والأقربون توظيفه أو إجهاضه كلٌ بحسب مصلحته، هذه رؤية واقع وليست نظرة مؤامرة. بالطبع لا يريد الأبعدون من القوى الكبرى ولا بعض الأقربين انهيار مصر أو سقوطها لأن التأثير السلبى يمكن أن يطالهم أو يطول مصالحهم. لكنهم أيضاً لا يتحمسون لسيناريو قيام دولة متقدمة قوية فى مصر لأن التأثير الإيجابى هنا بتداعياته وإلهاماته يمكن أن يكون عابراً لحدود مصر مثيراً لمخاوف البعض أو منافساً للبعض الآخر. بالتأكيد يمكن لمصر أن تصنع نهضتها بيديها (وهل هناك أجمل من صنع قناة سويس جديدة بسواعد المصريين وأموالهم؟) لكن على مصر هنا أن تتسلح بأعلى درجات ذكاء الحركة ومنطق التدرج وأن تستفيد جيداً من دروس النهضة الأولى فى عهد محمد على وعظات النهضة الثانية التى أجهضت فى عهد جمال عبد الناصر. (والأهم) أن تداوى مصر جراحها الداخلية وتستعيد تماسكها الاجتماعي. وهذا بذاته موضوع آخر يحتاج إلى حديث آخر. والملاحظ هذه الأيام هو شيوع استخدام مصطلح «الأمن القومى» من جانب الكثيرين فى كل القضايا تقريبا حتى أصبح من السهل للتدليل على أهمية موضوع ما إلصاقه بمفهوم الأمن القومي. لم يعد المصطلح يقتصر على المصالح الاستراتيجية العليا مثل مقومات الوجود المصرى ذاته، أو السيادة الوطنية، او الحدود، أو مياه النيل، أو الطاقة، أو الإرهاب العابر للحدود، او الجرائم المنظمة والعنف الجماعى بل أصبح مصطلح الأمن القومى يستخدم من جانب البعض فى قضايا مثل كرة القدم والغناء وغير ذلك. صحيحٌ أن المصطلح أصبح شديد الاتساع فى بعض الآدبيات لدرجة أن البعض يعتبره مرادفاً للتنمية بكل شمولها لكن ضبط المصطلح وإخراجه من دائرة الاستخدام العشوائى يبدو مطلوباً فى الحالة المصرية. على أى حال يمكن تجاوز مبالغة البعض فى الدفاع عن مصلحة مصرية ما ولو باستدعاء مفهوم الأمن القومي. لكن من الضرورى صياغة المفهوم وتحديد أولوياته ومجاله الحيوي. ليس لدينا وثيقة مرجعية مكتوبة للأمن القومى المصرى على غرار ما تفعله بعض الدول الكبرى مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية التى تصدر كل عدة سنوات وثيقة للأمن القومى الامريكى لكن هذا لا يمنع من وجود تصور للأمن القومى المصرى تسهم فى صياغة ملامحه مؤسسات صناعة القرار والتشريع والبحث للدولة المصرية ومراكز التفكير والبحوث والدراسات والجامعات. ولنتذكّر أن مراكز البحوث والدراسات والجامعات فى الولاياتالمتحدةالأمريكية كانت أول من اهتم باكتشاف وصياغة أفكار مثل الحروب الاستباقية والتدخل الإنسانى فى بداية ثمانينيات القرن الماضي. هذه الأفكار وغيرها تم توظيفها فيما بعد كأدوات لخدمة الأمن القومى الأمريكى. هنا ثمة إشارة واجبة إلى أن أى وثيقة أو حتى تصور مرجعى للأمن القومى المصري يجب أن تحدد ليس فقط المصالح العليا للدولة المصرية أو دورها القومى بحكم كونها دولة مؤسسة وحاضنة للجامعة العربية ومعظم مؤسسات العمل العربى المشترك ولا التزامها الإنسانى بقيم السلام العالمى بل يجب أيضاً أن توضح انحيازها لقيم الحرية والديمقراطية والعدالة باعتبارها من مقومات الدولة المصرية. هذا ملف صعب ومعقّد لكن مصر الجديدة جديرة بمواجهته. السؤال الآن ماذا عن المخاطر التى تهدد أمننا القومى والتى يبدو الحديث عنها خافتاً وسط ضجيج قضايا أخرى؟ لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم