دائما ما توضع الأفلام تحت الحراسة المشددة، فعلاوة على تكلفتها المالية الباهظة التى تتجاوز الملايين بكل عملات العالم، فإن قيمتها الأدبية والفنية بل والأثرية لا تقدر بثمن، فهذه الأفلام تضم إبداعات فنانين لا حصر لهم، رحل عدد كبير منهم عن عالمنا واكتسب الخلود من خلال الأفلام السينمائية. وعندما سئلت الممثلة الأشهر فى التاريخ «سارة برنار» عن السبب فى قيامها بالتمثيل فى الأفلام فى آخر أيامها وبدايات فن السينما، أجابت: «كى أحصل على الخلود»، ولقد حصلت على الخلود بالفعل إلى جانب كوكبة من الممثلين والفنانين فى سائر مجالات العمل السسينمائى. أما من الناحية الأثرية، فحدث ولا حرج، أننا نشاهد الأماكن على حالاتها الأصلية منذ نحو مائة وعشرين عاما هى عمر السينما حتى الآن وما طرأ عليها من تغيرات، بل ومازال وانمحى من الوجود من هذه الأماكن، إلى درجة يمكن معها تسجيل خطط مرئية عصرية على نهج الشيخ تقى الدين المقريزى صاحب الكتاب الشهير «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار»، المعروف بالخطط المقريزية، ولعل أجدادنا من المؤرخين العظام لو كان قدر لهم أن يعيشوا فى زماننا لسجلوا التاريخ أحداثا وأماكن باستخدام السينما، ولذلك أصبح التعامل مع الأفلام مثل التعامل مع الآثار، وتمكنت الأفلام بمختلف وسائطها من الاحتفاظ بالأحداث المهمة فى التاريخ المعاصر. وخلافا للعالم كله فى الحراسة المشددة للأفلام بالحفاظ عليها فى أرشيفات كبيرة تتوافر فيها جميع وسائل الحماية على كل المستويات، ما هو أمنى منها، وما هو خاص بمعاملة الأفلام نفسها بتوفير درجات الحرارة والرطوبة المناسبة للحفاظ عليها، والوقاية ضد التلف وضد الحريق، وطبع (نيجاتيفات) بديلة، وترميم ما قد يتلف من أفلام.. فإن مفهوم الحراسة على الأفلام فى مصر، هو مفهوم (بيروقراطى) يدمر الأفلام ويعرضها للتلف والسرقة والتدمير، وتبدأ فصول الحراسة (البيروقراطية) على الأفلام مع تأميم الاستوديوهات والشركات السينمائية الكبيرة فى مصر، ووضعها تحت الحراسة، حيث أسندت مهمة الحارس العام كما هو الحال فى معظم ما تم تأميمه من مصانع وشركات إلى أهل الثقة وليس إلى أهل الخبرة، ومن سوء حظ استوديو مصر، وسوء حظ السينما المصرية كلها، على سبيل المثال وليس الحصر، فإن السيد الموثوق به الذى أسندت إليه وظيفة الحارس العام على الاستوديو، كان ضابطا لا يعرف شيئا عن صناعة السينما، ولذلك وعند تفقده الاستوديو تساءل عن علب الأفلام الموجودة بالمعمل، وعندما علم أنها الأفلام القديمة التى أنتجها الاستوديو، طلب التخلص منها باعتبارها أفلاما قديمة شاهدها الناس من زمن!!.. وهكذا قامت الحراسة (البيروقراطية) ببيع تراثنا السينمائى لعدد من التجار من بينهم تجار للخردة ووكالة البلح. وفى إطار هذه الحراسة الجاهلة أيضا وبعد وضع شركة «بهنا فيلم» تحت الحراسة، تم إغلاق مخازنها بالشمع الأحمر، ثم تم تحويلها إلى «بنك ناصر الاجتماعى»، حيث ظلت مغلقة لأكثر من أربعين عاما، تلفت الأفلام ودمرت خلالها.. وهذه الأمثلة ما هى إلا قليل من كثير من إهدار الذاكرة السمعية والبصرية لمصر. ولم تنتبه مصر إلى ضرورة وجود أرشيف للفيلم إلا عام 6691، وبعد أن فقد ودمر ما يتجاوز السبعمائة فيلم من الأفلام الروائية الطويلة، وبضع مئات من الأفلام التسجيلية بكل ما تحتويه من وثائق مهمة، ورغم أن هذه الخسارة الفادحة التى تعد الأكبر فى العالم فى مجال حفظ التراث السينمائى، فإن الأرشيف السينمائى فى مصر مازال وبعد ثمانية وأربعين عاما من إنشائه مجرد أرفف معدنية صدئة فى دهاليز المركز القومى للسينما فى ظروف حفظ تتلف الأفلام بدلا من حفظها وصيانتها، وتتوالى النداءات والصيحات لعمل أرشيف سينمائى حقيقى ولسنوات طويلة دون أن يتحرك أحد. أما آخر فصول الحراسة (البيروقراطية) الجاهلة الباطشة على الأفلام، فهو نوع جديد من الحراسة القضائية يحجب الأفلام عن المشاهدة كنتيجة للنزاعات (البيروقراطية) التافهة. وتبدأ وقائع هذه الحراسة (البيروقراطية) المشددة الجديدة عام 9002، عندما قررت وزارة الاستثمار ومن خلال الشركة القابضة للإسكان والسياحة والصوت والضوء والسينما «وأشياء أخرى لا أتذكرها» أن تقوم بإنتاج مجموعة من الأفلام عن رواد الاستثمار في مصر، وعهدت للمركز القومي للسينما بإنتاج هذه الأفلام لحسابها مقابل مائة وثلاثين ألف جنيه عن كل فيلم، قامت الشركة القابضة بدفع نصف المبلغ المتفق عليه مقدما وقدره مائة وخمسة وتسعين ألف جنيه، ولكن بعد الانتهاء من ثلاثة أفلام من هذه المجموعة لثلاثة من كبار مخرجينا وهي أفلام «طلعت حرب» من اخراج الكاتب والناقد والمبدع الكبير سيد سعيد، و«أحمد عبود» للمخرج التسجيلي الكبير سمير عوف، و«أبورجيلة» للمخرجة التسجيلية المتميزة علية البيلي، حدث نزاع بين مسئولي الشركة القابضة والمركز القومي للسينما، وعملا بالقاعدة المعروفة وقتها إذا أردت أن ترفض فيلما أو »تتلكك« لرفضه شُكل لجنة برئاسة المخرج الكبير الراحل توفيق صالح، وله باع مشهود في رفض أي أفلام تعرض عليه حتي لو كانت من إخراجه هو شخصيا، وهكذا شكلت الشركة القابضة لجنة برئاسة توفيق صالح وعضوية موظفة تعلم بها، وكانت النتيجة المتوقعة مسبقا رفض فيلمي «أحمد عبود» و«أبو رجيلة» والموافقة علي فيلم«طلعت حرب» الذي أفلت من المقصلة التوفيقية، وتعللت الشركة بقرار اللجنة ورفضت قبول الأفلام وطالبت برد النقود التي دفعتها، وتمسك المركز القومي للسينما بضرورة أن تتسلم الشركة القابضة الأفلام وتدفع للمركز بقية مستحقاته المالية، وانتهي الأمر برفع قضايا متبادلة من الجانبين لمدة أربعة أعوام حتي الآن ولعل تكلفتها قد تجاوزت المبلغ المطالب به، أما نتيجة هذا العبث البيروقراطي فهو وضع الأفلام الثلاثة تحت الحراسة القضائية المشددة ومنعها من العرض في هذه المهزلة التي يهدر فيها المال العام والإبداع الفني علي حد سواء. ولقد اتيح لي أن أشاهد فيلم «طلعت حرب» للمخرج المبدع الكبير سيد سعيد وهو فيلم بالغ الأهمية والتميز، ويتضمن وثائق مهمة ونادرة عن تاريخ مصر المعاصر، كما يتضمن عددا من اللقاءات المهمة من بينها لقاء مع الكاتب والمفكر الراحل سعد هجرس الذي فقدناه منذ شهور قليلة ولقاء مع حفيد طلعت حرب وكذلك لقاء مع الكاتب والمحلل السياسي والاقتصادي د.طه عبدالعليم، أنه ليس مجرد فيلم عن طلعت حرب، ولكنه رسالة نبيلة ورؤية عميقة لواقعنا السياسي والاقتصادي نسعي لاحياء الذاكرة الوطنية التي انتابها الوهن كي نتبين ملامح المستقبل بمعرفة دروس الماضي ووقائعه التي مازالت أحداثه بكل سلبياتها وايجابياتها ماثلة في الأذهان. ترك طرفا الصراع في الشركة القابضة والمركز القومي للسينما موقعيهما، وتوالي علي المركز ثلاثة رؤساء سينمائيين يخشون الاقتراب من هذا الملف الوهمي الذي كان لا يكلف أيا منهم سوي أن يرد مبلغ المائة خمسة وتسعين ألف جنيه ويحصل علي ثلاثة أفلام لثلاثة من المخرجين المتميزين من إنتاج المركز القومي للسينما وبسعر زهيد للغاية حيث إن المبلغ المتنازع عليه لا يكفي لإنتاج فيلم واحد لأي من هؤلاء المخرجين، وفي تقديري فإن هذا الإجراء لو تم اتخاذه من قبل المركز القومي للسينما »واضع تحت كلمة للسينما عشرة خطوط« سيحفظ للسينمائيين الكبار كرامتهم وحقهم في الإبداع، ويحفظ للشعب المصري حقه في مشاهدة إبداعهم. ولكن لأن البديهيات أصبحت تحت وطأة» الكيد» البيروقراطي والحراسة المشددة الناتجة عنه من الأمور المستحيلة، فإننا نجد أنفسنا في مواجهة أمر كنا ترجو ألا نقوم به، وهو رفع هذا الأمر للدكتور جابر عصفور وزير الثقافة ليتدخل لفك أسر هذه الأفلام التي تم حجبها ووضعها تحت حراسة بيروقراطية مشددة بحكم زمالته لهؤلاء المبدعين قبل أن يكون وزيرا للثقافة، وأن يضع نهاية لهذه المهزلة المستمرة لأكثر من أربعة أعوام من العبث واللهو علي حساب الإبداع والمبدعين في مصر.