أخيرا جاءت جائزة النيل فى الفنون لتتوج ،وهى أرفع جوائز الدولة ، مشوار عمره 60 عاما لعميد رسامى الكاريكاتير فى مصر أحمد طوغان و لتثبت أنه لا يصح إلا الصحيح فى نهاية الأمر وأن المرء مهما دفع الثمن جراء مواقفه ومبادئه ، سيأتى يوم الحصاد حسما حين يدرج اسمه فى قائمة الشرفاء . طوال حياته لم يكن طوغان إلا مهنيا محترفا لم يستطع أحد أن يضع حوله علامة استفهام ،فهو لم ينتمى طوال حياته لحزب سياسيى أو تيار فلم يحسبه أحد على توجه أو فكر ما أو قذفه بتهمة العمالة أو الإضرار بالوطن وهى التهم التى تجيدها الأنظمة الديكتاتورية فى وجه كل من يوجه لها كلمة نقد حتى لو كانت لوجه الله. هو من جيل أكد بأعماله تمصير الكاريكاتير ..تلك العملية التى بدأها جيل من رسامى الكاريكاتير أمثال الفنان رخا وصاروخان الأرمنى الأصل مصرى الهوى والهوية ...ليثبت أن فن الكاريكاتير الذى اكتسب اسمه بالفرنسية بوصفه فن ساخر من فنون الرسم وفى الإيطالية بمعنى المبالغة ، موجود فى جينات المصريين تحت الجلد منذ كانوا منذ آلاف السنين يتندرون على العلاقة بين الحاكم والمحكومين بتصوير الملك على هيئة قط والشعب على هيئة فأر وذلك قبل أن يخترع جوزيف باربيرا فى خمسينيات القرن الماضى شخصيتا « توم وجيرى «. فى عام 1926 ومن عائلة ذات جذور عربية ولد طوغان التى تنطق فى الأردن « طوقان « ونشأ فى الصعيد وفى مدرسة ديروط الابتدائية للبنين للأقباط تلقى تعليمه .. فى المدرسة اكتشف مدرس الفصل موهبته فى الرسم ..لم ينس طوغان اسمه ما حيا «»لويس بطرس « كان هذا اسم الأستاذ الذي ساهم فى رسم ملامح تلميذه حين كان يأتى إليه بصور ورسوم فرعونية كى يقوم بتقليدها .. كان والد طوغان ضابطا بالبوليس المصري فكان كثير التنقل بأسرته مما أثرى شخصية الصغير برؤية أماكن وأشخاص ومناظر اختزنها دماغه الصغير ليستعيدها لاحقا رساما وكاتبا . انتقل أحمد مع والده إلى أسيوط التى كانت فى قمة مجدها حين كان يتولى شئون المحافظة شاعرا هو عزيز أباظة باشا ،روحه الشاعرة انعكست على جمال المحافظة ..إضافة إلى هدوء وسحر زمان لم تلوثه الضوضاء طنين التكنولوجيا ..كانت عساكر الشرطة تخرج كل جمعة بملابسها المزركشة وتعزف الموسيقى حتى تصل إلى الحديقة الرئيسية ..الجمال والمناظر الطبيعية تركت شيئا ما فى نفس الرسام الصغير الذي انتقل ثانية مع والده إلى الجيزة وهناك التحق بمدرسة الأورمان التى كانت حديقتها شاسعة اقتطعت منها بعد ذلك أجزاء لسفارة تشيكو سلوفاكسا « التشيك والسلوفاك فيما بعد « وجزء آخر لكلية الفنون التطبيقية . فى المدرسة تعلم فلاحة البساتين ..وفى كل صباح كان يمر بحديقة الأورمان ويشبع رئتيه برائحة زهرة « دقن الباشا « بزهرتها الكبيرة التى تشبه زهرة القطن ..وعينيه بمناظر الفيلات المتراصة فى تناسق وجمال يصنع لوحة فنية لا مثيل لها ...لم يكن يعكر صفو اللوحة سوى مجاميع جنود الإنجليز المتناثرة هنا وهناك فى ظل أجواء الحرب العالمية الثانية ..فى هذا التوقيت جاء الإنجليز برسامى الكاريكاتير فى مصر كنوع من الدعاية المضادة علهم يواجهون دعاية جوبلز الضليع فى الحرب النفسية والدعاية السياسية ..ومضى راسمو الكاريكاتير ينفذون الخطة التى أرادها الإنجليز .. تلك الرسوم لفتت انتباه طوغان وبدأت موهبته فى الرسم تتجه إلى فن الكاريكاتير ليبدأ طوغان مشوار عنوانه الرئيسى « 60 سنة كاريكاتير « . هذه هى البدايات التى شكلت المقدمات انطلقت منها للحديث مع طوغان : صحيح أن جائزة النيل ليست أولى الجوائز التى حصلت عليها فقد سبق أن حصلت على وسام العلوم والفنون وجائزة على ومصطفى أمين فى الرسوم الصحفيية ..لكن جائزة النيل ذات مذاق خاص كما صرحت أنت ؟ سعدت بالجائزة لأنها تعكس تقدير الدولة للمبدع ودوره ولم أكن أتوقع الجائزة بعد هذا العمر الذي بدأته مع رئيس التحرير طه حسين وقد بدأت مشوارى فى الجمهورية قبل أن تصدر بستة أشهر وخرجت منها وعمرى 86 سنة عندما استغنوا عن خدماتى ولكن عندما طلبت منى الجمهورية العودة بعد ثورة يناير لم أتردد لكن لما تولى مرسي الحكم أصبت بشىء من اليأس دفعنى للتوقف من تلقاء نفسي مكتفيا بالمعارض التى أقوم بتنظيمها . أعادتك الجائزة بطبيعة الحال إلى بداياتك الأولى مع الكاريكاتير .من أين بدأت الحكاية ؟ البداية جاءت عن طريق صديق العمر محمود السعدنى ..كنا جيرانا وشاهدنى وأنا أكتب بالطباشير على الجدران الخاوية فى الشوارع ..كنا أيام الحرب العالمية الثانية ..وكان المصريون متعاطفين مع الألمان أملا فى التخلص من الاحتلال البريطانى ..كنت أرسم الجنود الإنجليز وهم يجرون أمام الألمان ومن يومها صرنا أصدقاء لم نفترق حتى عندما ذهبنا للتطوع فى حرب فلسطين رسب فى الاختبارات لضآلة جسده وقبلت لكننى لم أستطع الذهاب بدونه . وبعد حرب 1967 أسسنا معا جمعية من الصحفيين لقتال الإسرائليين إذا ما اجتاحوا القاهرة وكان معنا يوسف إدريس . ومن خلال السعدنى تعرفت على الفنان رخا وزهدى ثم عملت مع أبو الخير نجيب فى جريدة الجمهور المصري التى كانت تعمل ضد الاحتلال وكان فى مقر الجريدة غرفة ( الغرفة رقم8) لدعم المقاتلين على جبهة قناة السويس وكان يرأس الغرفة المصور فتحى الرملى . وكيف انتقلت إلى جريدة الجهورية ؟ كانت تربطنى بالسادات علاقة صداقة وطيدة قبل 1952 ..تعرفت عليه فى منزل زكريا الحجاوى وكنا نجلس ثلاثتنا على مقهى محمد عبد الله بالجيزة التى أزيلت ولم يبق منها سوى الذكريات فى وجدان من عشقوها قبلة الأدباء والمفكرين ....عندما أسس السادات جريدة الجمهورية ذهبت للعمل معه .بعدها بعام ونصف ترك السادات الجريدة ليحل محله صلاح سالم الذي كانت له تحربة سابقة مع جريدة الشعب التى كانت تصدر قبل الثورة باسم المصري ..لكنها لم تنجح فقرر صلاح سالم أن يدمح الشعب مع الجمهورية ليصبر اسمها «الجمهورية حريدة الشعب «.ثم جاء برجاله وأعوانه وكان من أول قراراته عزلى من رئاسة قسم الرسم ..ظللت أعمل رغم المضايقات التى واجهتها من مجموعة صلاح سالم التى أقنعته باتخاذ سلسلة من الاجراءات بهدف زيادة توزيع الجريدة منها زيادة عدد الصفحات من 12 إلى 48 صغحة وتنظيم مسابقات جائزتها الأولى سيارة نصر ...وبالفعل قفزت مؤسرات التوزيع ...وفى إحدى الاجتماعات مع صلاح سالم انتقد ت تلك السياسات قائلا : هذا التوزيع غير طبيعى والجريدة لا تعبر عن الثورة أو كونها جريدىة رأى فكيف ننشر فى الصفحة الأولى خبرا عن اختفاء كلب الفنانة ماجدة ،فهل مطلوب من الشعب المصري البحث عنه .. وكيف نكون جريدة ثورة والفائزة بمسابقة أجمل عربية باكينام فرغلى ابنة فرغلي باشا أحد كبار الرأسماليين انذاك ....) ؟ لم يكن من السهل أن يتقبل صلاح سالم تلك الانتقادات ..فأصدر قرارا بفصلى وبيرم التونسى وسامى داوود ومحمد الفيتورى ممن أسماهم مجموعة السادات . إنها آفة كل العصور فى مصر ..الشللية التى تدهس الكفاءات وتقرب أهل الثقة وحملة المخابر ...ماذا فعلت بعدها ؟ قررت بعدها ألا أعود إلى الصحافة وقررت استثمار هوايتى فى جمع التحف وعرضها لدى صديقى اليونانى بائع الورد الذي كان محله بالقرب من قصر عائشة فهمى بالزمالك ...كانت الأسر الكبيرة تبيع مقتنياتها آنذاك برخص التراب لتدبر أحوال المعيشة بعد قرارات التأميم وتوزيع الملكية الزراعية .لكن أحوالى المادية لم تكن تسمح بشراء الكثير ..فخطرت لى فكرة ..توجهت إلى مصر القديمة وقمت بشراء مجموعة من القلل وقمت برسمها وزخرفتها وذهبت بها إلى صديقى اليونانى فإذا به يخبرنى بعد بضعة ساعات أن الفازات كلها قد بيعت ..وهنا قررت أن يكون هذا هو مشروعى ، فالفازة كانا تكلفنى 8 صاغ وأبيعها بثلاثة جنيهات ...ثم فكرت فى تحويل غرفة فى شقتى بالطابق الأرضى إلى محل لعرض الأنتيكات ) لكن حدث ثانية ما غير المسار فى مقهى ريش كنت أجلس عندما جاءنى سعد الدبن وهبة يخبرنى أن عبد الناصر قرر إعادة كل المفصولين إلى الجمهورية فرفصت العودة لكن سعد ألح على ...يومها سألته كنت ملازم أول فى إدارة المرور ثم ذهبت إلى الجمهورية وأصبحت مديرا لها .من أين لك هذا ؟ فقال : كنت ضابط مرور أبحث عن العقدة وأحلها .وعدت إلى الجمهورية ...بيرم يكتب وأنا أقوم بالرسم. وكيف كانت علاقتك بصلاح سالم بعد العودة؟ صلاح سالم كان بريئا كالأطفال ...وعندما مرض كنت حريصاعلى زيارته فى مستشفى المعادى العسكرى. كنت صديقا للسادات قبل أن ينضم إلى تنظيم الضباط الأحرار...وظلت الصلة بينكما بعد أن صار رئيسا ...ألم يطلب منك يوما أن تخفف من حدة انتقاداتك ؟ على الإطلاق . السادات يعلم أننى كنت ثائرا مدافعاعن القضايا الوطنية والقومية .. فى مصر كانت لى علاقة وطيدة بالفدائيين حتى أننى اشتركت ذات مرة فى خطف ضابط بإخفائه فى منزلى وتحت تهديد سلطات الإنجليز باحتلال القاهرة قمت مع الفدائيين بتهريبه خارج مصر . وفتحت بيتى لإدارة الثورة الجزائرية وعشت مع ثوارها ملحمة النضال ونشرت أول كتبى « أيام المجد فى وهران «، وضمنته وثائق مهمة بيد عسكرى فرنسي يعترف أنهم احتلال ظالم فى مواجهة شعب يناضل من أجل حريته. وفى فلسطين سجلت بريشتى كل أحداث حرب 1948 والتحمت مع شباب المقاومة الفلسطينية المناضل تأثرا بحالة التفاؤل والإرادة التى امتلكوها ...ثم عدت لأيكتب كتابه « دور الكاريكاتير فى قضية فلسطين « .وعن حرب اليمن أصدرت سبعة كتب .وكتابى عن قضايا الشعوب اصدرته دار التحرير عام 1975 وكتب مقدمته السادات . حتى بعد اتهامك بمعاداة السامية لم يطلب منك السادات التوقف فى وقت كانت فيه مصر الرسمية ترعى عملية السلام مع إسرائبل ؟ عندما قالوا للسادات إننى معاد للسامية كان يضحك كثيرا ..والسادات لم يلجأ إلى عقد اتفاق سلام حبا فى إسرائيل لكن لأن منطق الأمور يقول إن نهاية الحروب جلسة بين المتحاربين لوضع أوزار الحرب . الظريف أن إسرائيل عندما وضعت اسمى ثانية فى كشوف المعادين للسامية 2009 نشر رئيس التحرير صورتى فى الصفحة الأولى من جريدة الجمهورية وبعدها بأيام تم الاستغناء عن خدماتى . كانت علاقتك بنظام مبارك متوترة أو على الأقل لم تكن محبوبا من جانب النظام لرسوماتك التى كانت تنتقد بشدة ما حدث لمصر ..ودفعت الثمن ؟ فى أواخر عهد مبارك أصبحت مصر كسيحة ومتسولة محرومة من التعليم والصحة ومؤهلة أن يرثها جمال مبارك ...ويملك مصيرها أمريكا وإسرائيل لم أملك إلا الانتقاد بالكاريكاتير تحدثت عن الهحرة غير الشرعية ومياه الشرب الملوث وفساد المستشفيات والجهل فى قطاع التعليم . مصر تجرفت فى عهدمبارك. إسرائيل بعد انتصارنا عليها قررت الاتدخل حربا ثانية مع مصر ففى المرة الأولى أنقذتها أمريكا ..لذا قررت تخريب مصر من الداخل وكانت الخطوة الأولى التخلص من السادات .اتفقت إسرائيل مع أمريكا وكانت الجماعات المتطرفة أداة تنفيذ المؤامرة ...وكانت مهمة مبارك تكسيح مصر ..انهارت مصر تعليما وصحة وانصرفت الصناعة الحربية إلى الأدوات المنزلية . لقد عشت أحداث ثورتين مفصليتين فى التاريخ المصري الحديث وأقصد بهما يوليو 1952 و25 يناير ....والثورات على قدر ما تحمل من الطموحات يعقبها كثير من الإحباطات ....كيف عشت التجربتين ؟ كنت أحد الذين ينتظرون الثورة على الملكية ..لكن وبكل أسف وكما كتب الصحفى الوطنى أبو الخير نجيب ( احنا طردنا فاروق فاسد وجبنا مكانه 14 فاروق ).وللأسف تم القبض عليه ومحاكمته وحكم عليه بالإعدام إلا أن السادات تدخل لدى عبد الناصر وتم تخفيف الحكم إلى المؤبد .ولما تولى السادات الحكم أمر بالإفراج عن أبو الخير نجيب الذى أحيل للمعاش وصدمته سيارة أمام نقابة الصحفيين بعد أن اشترى دجاجة من كشك المواد التموينية بالنقابة . وكان التنكيل بشخصية عظيمة مثل أبو الخير نجيب شئ مؤسف فى ظل ثورة على الاستبداد .فهذا الصحفى الشريف أجبر إسماعيل صدقى باشا على الاعتذار للأهرام بعد أن تأخر على موعد إجراء الحوار الصحفى مع أبو الخير، فاتخذ مجلس إدارة الاهرام قرارا آنذاك بعدم نشر أخبار إسماعيل صدقى باشا حتى قام بالاعتذار لأبو الخير وللأهرام . وبعد ثورة يناير أصابنى الإحباط حين حاول الإخوان القفز على الثورة والاستئثار بالأمر فى مصر والتعامل مع غير الإخوانى بوصفه مواطن درجة ثانية .لكن كان دائما لدى أمل أن الثورة ستنتصر لذا كنت عندما أتحدث عن مصر ارسم صورة شاب وفتاة بوصفهما الأمل فى إعادة البناء و اليد التى ستواجه الثورة المضادة. وعلينا أن نجتاز تلك المرحلة بعيدا عن كل الأفكار المتطرفة وأوهام الخلافة الإسلامية التى تريد إعادتنا إلى الوراء رغم أن تجربة الخلافة لم تنجح سوى فى عهد الخلفاء الراشدين وفترة عمر بن عبد العزيز . كرسام كاريكاتير ..كيف تابعت أعمال الجرافيك التى تزينت بها شوارع مصر متذ ثورة يناير؟ الشعب المصري فنان وأدرك أن الرسم وسيلته فى التعبير والسخرية السلاح الرئيسى الذى أدركه قادة الحروب متذ سنوات ، فتشرشل لم يملك إزاء اكتساح الألمان أوروبا حتى أنهم استولوا على هولندا وبولندا فى يوم وكذلك السويد والنرويح ، سوى الاستعانة برسامى الكاريكاتير ليغير من دفة الموازين حتى أذكر أننى عندما شاهدت إحدى تلك الرسوم فى شوارع القاهر تأثرت بها حتى كدت أعدل عن موقفى للمؤيد لألمانيا وذلك لقوة الكاريكاتير.