عندما يقال كاتب « إسلامي » فإنه لابد وأن تستحضر في ذهنك مجموعة من التساؤلات : أولها : ما يتعلق بالمسمى « إسلامي « ومدى ضرورته عند التعريف بالكاتب ، هل هو لتمييزه عن الكتاب الآخرين من المسلمين وغير المسلمين الذين ليسوا إسلاميين ، أم أنه سمة خاصة للكاتب أرادها لنفسه من حيث اهتمامه بالشأن الإسلامي دون غيره ، لكن الأمر قد يخرج عن ذلك فيكون المسمى من قبل أولئك ممن يضعون حداً دينياً فاصلاً بين الكتابة من منطلقات دينية , و كل الكتابات الأخرى ، وهنا نتحدث عن لون جديد من التمييز . وقد يقترن المسمى في إطاره العام بمصطلح « الإسلام السياسي « ، وبالعداء مع الليبرالية والاشتراكية والعلمانية وسائر الثقافة الإنسانية الوضعية ، وأيضاً بما هو شرعي وحلال في مقابل غير الشرعي والمحرم . إننا نصل عبر هذا المسمى إلى أقصى حدود التساؤل سواء أكانت الظنون صحيحة أم خاطئة . وقد يتساءل بعض من الناس عن مسمى « إسلامي « من منطلق النشأة الاجتماعية أو البيئة الدينية المحيطة ، وهل هو نتاج تحول فكري يماثل بالتعبير الشعبي الدارج التوبة ؟ وإذا أردنا اختيار كاتب تحمل تواريخه مادة حافلة بالتحولات الفكرية المثيرة للجدل من ناحية ، وهذا ما يهمنا في المقام الأول ، لكن من ناحية أخرى ، اختيار ناتج من حضور رسمي مؤثر كعضو فى مجمع البحوث الإسلامية وعمله كرئيس تحرير لمجلة الأزهر – التى نشرت في يناير 2014 كتاب الشيخ محمد الخضر حسين – شيخ الأزهر – تحت عنوان جديد « ضلالة فصل الدين عن السياسة – إنه د. محمد عمارة الكاتب « الإسلامي « خريج دار العلوم هذه الكلية العريقة التي تخرج فيها الشيخ حسن البنا . وقد بدأ عمارة ماركسياً حينما كان التيار الثقافي السائد في مصر في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ماركسي ، لكنه صار بعد نكبة 1967 منضوياً تحت راية الاعتزال إلى أن جاء حكم « السادات « ومعه اتسع نطاق حركة التيارات الدينية وانتشارها في الأوساط الاجتماعية والشعبية ليعاود عمارة منذ أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي ظهوره كأحد المنظرين المهمين تحت راية « السلفية الدينية « التى يراها ، وعلى حد قوله فى عام 1982 – بعد اغتيال السادات – في ندوة « ناصر « الفكرية الخامسة والتي أقامها التيار الناصري في بيروت « إنها تعد سبيلاً إلى استعادة حضارتنا لاستقلالها .. وتحديد قسماتها « . ليصبح وكما يرى «د. محمد عباس « : « واحد من كوكبة لامعة صادقة هداها الله فانتقلت من الفكر الماركسي إلى الإسلام « ... دليلاً على أن خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام « . ويستمر د. عمارة في تمجيده « للسلفية الدينية « التي تعيد إلى الدين جوهره الأهم وروحه الأعظم ، وهو التوحيد الديني في العقائد والعبادات .... « ويشير إلى أن نهضة محمد على حكمتها المصلحة المدنية لا السلفية الدينية ، إنه بتعبيره « لم يكن سيفا بيد العمامة « . إنه يرى في الجامعة الإسلامية كما رأى « الأفغاني « « أيديولوجية الأمة الفعالة « ولا يفسر « د. عمارة « كيفية ارتباط الحضارة كعمل إنساني مع الدين كمعطى إلهي . فعلى سبيل المثال ، لم تحدد الحضارة في شقها السياسي طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم من منطلقات دينية ، لكن من خلال صورة لعقد اجتماعي كما فى الدولة الحديثة . غير أن العبارات البليغة لا تجعلنا نملك القدرة على التمييز بين الثابت والمتغير ، المطلق والنسبي ... وحين يقدم د. عمارة كتابة « معركة الإسلام وأصول الحكم 1989 ، تلك المعركة التي حدثت إبان صدور كتاب الشيخ على عبد الرازق « الإسلام وأصول الحكم « عام 1925 ، فإنه يرى أن أهمية هذا الكتاب وخطورته ليست نابعة من العلمانية وفصل الدين عن الدولة ، وإنما كانت خطورته أنه أول محاولة ل « أسلمة العلمانية « والادعاء بأن الإسلام علماني ، « لأن أصله – قرآناً ، وسنه ، وجماعة لا تقول إنه دين ودولة « ، بل هو دين لا دولة ، ورسالة روحية لا يعني بالسياسة ... ونتوقف عند تعبيري : أسلمة العلمانية ، وعلمنه الإسلام كما وردا بكتاب د. عمارة ، واللذان يثيران قلقاً وشكوكاً لدى القارىء ، لكنهما لا يقدمان معرفة بالمفهوم أو المصطلح ، ما الذي نعنيه بالعلمانية التى تقف من الدين موقفاً حيادياً ، فهي لا تفرض الإيمان بدين معين ، ولا تعادي آخر ، ما هى أصولها .. كيف جاءت نشأتها ، وما هي دلالتها الاصطلاحية واللغوية ، هذه أمور لازمة لإدراك المفهوم أو معرفة المصطلح ، وعندئذ يمكن إدراك البون الشاسع بين العلمانية سريانية الأصل لغوياً واصطلاحاً للدلالة على الناس الذين يمارسون حياتهم اليومية دون أن يكونوا رجال دين ، ومن ثم فإنها لا تناقض الدين أو تعاديه بل تميز الناس العاديين عن رجال الدين ومتى لا يوجد تأصيل للمفهوم ( العلمانية ) لا يحق لنا استخدامه على نحو لا يتفق مع نشأته أو أصوله بغرض معين . مرة أخرى ، يعاود د. عمارة موقفه المتشكك في نوايا ومقاصد الشيخ على عبد الرازق الذى حاول تبرئة ساحة الإسلام الهوي والغرض السياسي آنذاك ، لإضفاء شرعية على حكم ملكي مستبد تحت مظلة دينية ، إنه يقول بالنص « إذا كان الشيخ على عبد الرازق قد برع في « المراوغات التشكيكية « التي مكنته من أن يضع في كتابه متناقضات يستطيع أن يلجأ من إحداها إلى الأخرى ، عند المناظرة وفي أسلوب وبألفاظ قد تسعفه إذا هو شاء أن ينفي عن كتابة التناقض « ؟ ... وفي المقابل يعرض كتاب شيخ الإسلام محمد الخضر حسين – شيخ الأزهر – ( جزائري الأب ، تونسي الأم ) المعنون « نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم « عام 1926 ، فيقول عن مؤلفه الشيخ الخضر « في فن الجدل وأدب المناظرة قد مكنته من تتبع « المراوغات التشكيكية « للشيخ على عبد الرازق ... في صبر وأناه ورسوخ قدم ، يحسده عليها أهل العلم وأساطين الجدل والمناظرة « وأياً كان الموقف من المعركة التي دارت فى العشرينيات من القرن الماضي ، وما صاحبها من ظروف سياسية آنذاك ، فإن السؤال الذي يلح علينا الآن : ما هو الداعي إلى إعادة طبع الكتاب وإصداره كهدية لمجلة الأزهر التي يرأس تحريرها د. عمارة في عدد ( ربيع الأول 1435 ه ، يناير 2014 م) تحت عنوان جديد « ضلالة فصل الدين عن السياسة « . هل ثمة حاجة إلى إعادة لقضية الخلافة الإسلامية وما تثيره من أجواء مشحونة في وقت تحاول فيه مصر الاستقرار ومواجهة مسئولياتها الداخلية والخارجية . هل نحتاج إلى مناقشات تعيد اختراع العجلة مرة أخرى ، فمن المعلوم أن مبادئ الدين كلية هدفها الإرشاد والتوجيه لا التفصيل والتنفيذ ومن هنا يتم استلهام مبادئ المساواة والعدل ، والتعاون ... الخ من كليتها وشموليتها لكى تسترشد بها السياسات المراد تطبيقها ... وهذا ما يعترف به د. عمارة في كتابه « الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية عام « 1988 والذي يتضمن في معرض حديثه ، وعلى نحو موجز أن شعار العلمانية قد ارتفع في أوروبا ، بمعنى عزل السلطة الدينية للكنيسة عن شئون المجتمع السياسية ، لأن تراث أوروبا وواقعها كانا يشهدان سلطة دينية تحكم قبضتها على مقدرات المجتمع كلها ، أما في واقعنا نحن وتراثنا ومنطلقاتنا فالأمر مختلف ، بل وعلى النقيض ... فالإسلام لا يقر السلطة الدينية ، بل هو – كما يقول الإمام محمد عبده ينكرها ويدعو إلى رفضها « ... لكن د. عمارة المهتم بالحديث في العلمانية التي غابت شمسها في الغرب كمصطلح يحمل دلالات يمكن الجدل حولها ، لكنها تبعث من جديد على أرض مغايرة لا يوجد فيها المصطلح أصلاً ، إنما تم توظيفه للهجوم وكيل الاتهامات التي لا علاقة لها بطبيعة المصطلح - المفهوم وسياقاته التاريخية ، وعلى نفس المستوى من الاهتمام ، يثير د. عمارة الحديث عن الخلافة وتأييدها فيذكر اختلاف طبيعة السلطة في نظام الخلافة ، عندما يكون الخليفة مختاراً من الناس ، وحاكماً بالعقد والبيعة منهم له ، ووكيلاً عنهم ، ومسئولاً أمامهم ... غير أنه لا يقول لنا كيف يمكن الإقرار بالخلافة في ظل أسس راسخة للدولة الحديثة ، ولم الإصرار على تعميم فكرة الخلافة الإسلامية في كل العصور ، فمنذ الأمويين ونهاية عهد الشورى ، ومسألة الدولة الإسلامية محل النظر لانتفاء شروط الشورى فهل يمكن قبول تصور الدولة الإسلامية كتصور حضاري إسلامي وغير سياسي في الآن نفسه ؟ وإن تم الحديث عن الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية ، فإنه يتجاهل كون العلمانية في حد ذاتها فصل بين السلطة والسياسة والسلطة الدينية بمعنى أن رجل الدين لا يحكم الدولة بصفته الدينية وإنما يحكم السياسي بسلطته السياسية للدولة . وهذا نفسه ما يعترف به د . عمارة في ثنايا كتابه المشار إليه سابقاً ، إن ما هو ديناً وأحكام سياسية لم يعرض لها القرآن بنص وتفصيل ، علينا أن نجعل الاحتكام فيها للاجتهاد والرأي ... لكن الدوران في هذه الحلقات الفكرية . لا يقدم اجتهاداً أو رأياً أو يطرح نظرية جديدة ينتظرها جمهور فارقته الثقة في كثير من المفكرين والكتاب ، وباعد بينه وبين تجديد وعيه وتأصيل أفكاره والبحث الدؤوب عن لقمة العيش .