وتمضى مسيرة التعاون والتنسيق المشترك بين القاهرةوموسكو في افريقيا. ويتدخل الزعيم السوفييتي نيكيتا خروشوف من اجل علاقات اكثر شفافية، ويبادر بمخاطبة عبد الناصر بشأن الاوضاع في الكونغو في رسالة بعث بها مع سفيره في القاهرة يروفييف، تأكيدا من جانبه لبدهيات تأمين الامن القومي لكل من البلدين بعيدا عن حدودهما الجغرافية، وادراكا لاحتمالات المواجهة مع آخرين طالما عرفهم العالم من واقع ما ارتكبوه من اخطاء وخطايا في حقوق الكثير من الشعوب الافريقية والآسيوية. وكان يروفييف اوجز ملابسات ذلك الموقف في " رسالته التي بعث بها الى الخارجية السوفيتية تحت رقم 510 بتاريخ 22 نوفمبر 1960"، حول لقائه مع عبد الناصر وقال فيها : " استقبلني ناصر في 12 نوفمبر بناء على طلبي . سلمته نص الرسالة التي بعث بها في 8 نوفمبر خروشوف رئيس الحكومة السوفيتية وترجمتها غير الرسمية الى الانجليزية، حول الاوضاع في الكونغو. وبعد اطلاعه على مضمون الرسالة طلب ناصر ابلاغ خروشوف بانه متفق تماما مع طرحه وتقديره للاوضاع في الكونغو. واضاف ناصر ان حكومة ج ع م ترى ضرورة سرعة ايفاد لجنة المصالحة المشكلة من الدول الافريقية بتكليف من الاممالمتحدة، الى الكونغو. واعلن اتفاقه مع خروشوف حول ارسال قوات افريقية موحدة الى الكونغو لتأييد السلطات الشرعية هناك . وقال انها فكرة طيبة لكنها غير قابلة للتطبيق نظرا لعدم الاتفاق في الرأي بين الدول الافريقية في مثل هذه الظروف.
واشار ناصر الى انه من غير المتوقع ان تسمح حكومات اثيوبيا وتونس وغانا، بل وحتى السودان بسحب قواتها من تحت قيادة الاممالمتحدة. هذا الى جانب ان قيادة الاممالمتحدة هناك سوف تعارض، مع العلم بان قائد القوات وهو جنرال سويدى ونائبه الهندى يبدوان موالين تماما للغربيين. وقال انه لم يكن من قبيل الصدفة سحب القوات المصرية من ليوبولد فيل وارسالها الى شمال غربي الكونغو على الحدود المتاخمة لغربي السودان". هذا الاهتمام من جانب موسكو بتطورات الاوضاع في الكونغو كان يعكس الرغبة في الارتقاء بالعلاقات مع مصر الى مستوى الحليف الاستراتيجي وهو ما تأكد لاحقا من خلال الرسائل المتبادلة بين الزعيمين ناصر وخروشوف، وفتح الباب امام مرحلة جديدة من التعاون العسكرى. ومن هذا المنظور يمكن تناول زيارات المشير عامر المتكررة لموسكو ومنها ما تناوله السفير السوفييتي يروفييف في رسالته حول لقائه مع حافظ اسماعيل نائب وزير الخارجية المصرية في 27 نوفمبر 1960 والتي بعث بها الى الخارجية السوفيتية في 13 ديسمبر تحت رقم 551 ممهورة بخاتم "سري" وقال فيها : " ابلغت حافظ اسماعيل بالموعد المحدد لزيارة المشير عامر لموسكو في 30 نوفمبر من العام الجارى، وانها سوف ترسل اليه طائرة "تو-104" رقم 4264 لتقله والوفد المرافق له الى الاتحاد السوفييتي. وقد اعرب حافظ اسماعيل عن شكره فيما اشار الى انه يعتذر عن الانضمام للوفد، لان عبد الناصر طلب بقاءه في القاهرة بسبب مرض الدكتور فوزى( محمود فوزي وزير الخارجية). وقال ان السفير القوني في موسكو سيتولى مهام المستشار السياسي للوفد المصري. وتطرق الحديث مع اسماعيل للاوضاع في الكونغو وقال ان مراد غالب (سفير مصر في الكونغو) تلقى التعليمات الخاصة ببحث السبل اللازمة لنقل لومومبا سرا الى ستانلي فيل في حال تأكيد انصاره في المحافظة الشرقية لضمان امن القوات التي سوف تضطلع بهذه العملية وتوفير سبل الاتصال مع العالم الخارجي. وفي حال تعذر ذلك قال اسماعيل انهم سيحاولون نقله الى القاهرة، وهو ما يعني اذا ما تيسر ذلك ان ج ع م سوف تفقد كل شئ في الكونغو". وتمضى الاحداث سريعة عاصفة، تتسم باكبر قدر من التوتر والاثارة، وهو ما دفع السفير السوفييتي الى لقاء على صبري مدير مكتب الرئيس في نفس اليوم 27 نوفمبر 1960 وهو ما اوجز تفاصيله في رسالته التي بعث بها الى الخارجية السوفيتية تحت رقم 566 بتاريخ 17 ديسمبر من نفس العام ممهورة بخاتم "سرى للغاية". " قمت بزيارة على صبري. ابلغته ان الحكومة السوفيتية تتابع نشاط حكومة ج ع م وتعرب عن قلقها تجاه الاوضاع العصيبة في الكونغو التي اضحت بها الحكومة الشرعية هناك بقيادة باتريس لومومبا. وقلت ان الحكومة السوفيتية تقدر ما تقوم به حكومة ج ع م وخاصة ناصر شخصيا من خطوات لتقديم الدعم والتأييد للحكومة الشرعية في الكونغو، وتعرب عن استعدادها لتقديم كل ما يمكن في هذا الشأن. كما قلت ان الحكومة السوفيتية تسأل رأي حكومة ج ع م في امكانية تقديمها للدعم والعون للحكومة الشرعية للكونغو بقيادة باتريس لومومبا. ومن جانبه اعرب على صبرى عن شكره الى الحكومة السوفيتية لتعاونها مع حكومة ج ع م واستعدادها لتقديم المعونة الى الحكومة الشرعية في الكونغو. وقال ان المهم الآن وفي هذه المرحلة تقديم الدعم المالي وليس المادى، مثل السلاح والمواد الغذائية والمواد الطبية، نظرا لان توفر المال يمكن ان يعوض كل ذلك. واكد حاجة لومومبا الى الاموال ليس فقط من اجل دعم انصاره في البرلمان وتعزيز مواقعه ضد محاولات الآخرين ممن قام الغربيون برشوتهم من النواب وممثلي الاوساط الاجتماعية والاعلام، وضرورة تنظيم المظاهرات الجماهيرية تأييدا للومومبا في اوساط الشباب والنقابات عند وصول لجنة الاممالمتحدة للمصالحة الى الكونغو. وسألت على صبري حول رأيه تجاه طابع وحجم المعونة من جانب الاتحاد السوفييتي وطرق توصيلها الى حكومة لومومبا بمساعدة حكومة ج ع م. قال صبري انهم على استعداد لتسليم المال الى لومومبا - دولارات امريكية او جنيهات استرلينية او فرنكات بلجيكية، - عبر قنواتهم في حال اتخذ الاتحاد السوفييتي مثل هذا القرار. اما عن حجم هذه الاموال فقال ان حكومة"ج ع م" ارسلت الى لومومبا منذ مدة غير بعيدة عشرة الاف جنيه استرليني لشراء تأييد النواب في البرلمان. وتطرق الحديث الى كل ما تبذله حكومة ج ع م من محاولات لدعم مواقع لومومبا بما في ذلك لانتقاله الى ستانلي فيل مع حكومته وبرلمانه للاعلان من هناك عن ان السلطة انتقلت مؤقتا الى هذا المكان . وقال على صبري ان لومومبا يضغط على مراد غالب سفيرج ع م في ليوبولدفيل لتنفيذ ذلك . لكن اتمام هذه العملية ليس بالامر الهين او السهل". وهنا نتوقف للعودة الى ما كتبه الدكتور مراد غالب حول مهمته في الكونغو وما لقيه خلالها هناك من مصاعب، في مذكراته التي نشرها عن "مركز الاهرام للترجمة والنشر" في عام 2001. قال غالب: انه "ذهب الى مقر عمله في الكونغو في عام 1960 ليجد وضعا مضطربا وغير مستقر. فقد اقدم كاسافوبو وكان رئيسا للجمهورية على خلع باتريس لومومبا من منصبه كرئيس للوزراء وزعيم حركة التحرير في بلاده ولا يعترف بكاسافوبو رئيسا". ومضى ليقول: انه "نتيجة للتدهور الكبير والمستمر في الوضع هناك قرر داج همرشولد الامين العام للامم المتحدة ان يرسل قوات دولية من الدول الافريقية المستقلة وكان لمصر ضمنها كتيبة تتبع الاممالمتحدة ويرأسها الصاغ (الرائد) سعد الدين الشاذلي"(ص44). وحول الخلافات بين لومومبا ورفاقه قال غالب : ان "موبوتو وكان على رأس القوات المسلحة الكونغولية جاءه يشكو لومومبا ويطلب التدخل حتى لا يقوم باهانته امام جنوده ، لانني كنت في هذه الايام اصبحت وثيق الصلة بلومومبا الذي كان يكن كل الحب والاحترام لمصر وللرئيس عبد الناصر".(ص45). على ان هذه المذكرات التي ورغم اهميتها لصدورها عن احد اهم شهود العيان لحقبة من اهم الحقب التاريخية لمصر والمنطقة، لم تتضمن وثيقة واحدة يمكن الاستناد اليها، ولم تهتم بتاريخ وتوثيق ما ورد بها من سرد للاحداث. ومن ثم فاننا نكتفي بما تناولته حول قتل لومومبا وطرد البعثتين الدبلوماسيتين السوفيتية والمصرية. كتب مراد غالب يقول: "في صباح احد الايام بصدور احدى الصحف وعنوانها الرئيسي يقول:"ملف الدكتور غالب"، وذهلت حين قرأت في الصحيفة نصوص رسائل مرسلة من محطة الاتصال المصرية اللاسلكية، ومن بينها وأخطرها، رسالة منى للرئيس عبد الناصر أبلغه بالحالة في الكونجو ، وكيف ان بلجيكا والغرب هم المسيطرون تماما الآن واذا لم يتدخل الاتحاد السوفييتي - وهو امر صعب جدا- فان الوضع سيظل تحت سيطرة الغرب"(49). واضاف قوله: " في الحال قامت السلطات الكونغولية بطرد البعثة الدبلوماسية للسفارة السوفيتية ولسفارات المعسكر الاشتراكي وطلب منى السوفييت ان اكون ممثلا لمصالحهم في الكونجو . قمت بسرعة بتقدير خطورة الموقف وحولت جهودى ناحية موبوتو وطلبت مقابلته وحدد لي موعدا داخل معسكر الجيش الذي يتخذه مقرا له. وذهبت اليه ومعى بعض الهدايا التذكارية القيمة التي نالت اعجاب جميع الموجودين معه. واعتقدت ان ذهابي اليه ومعي هذه الهدايا قد يذيب الجليد بينى وبين موبوتو لانني في الحقيقة كنت اريد البقاء في الكونغو" (ص49). واستطرد مراد غالب ليتحدث عن هروب لومومبا ووقوعه في ايدى خصومه الذين قاموا بتعذيبه ثم اعدامه. وقال ان بومبوكو وزير الخارجية في حكومة موبوتو استدعاه بعد هروب لومومبا ليبلغه بأنه "شخص غير مرغوب فيه" هو وجميع اعضاء السفارة المصرية. وقد كانت هذه التطورات محور حديث مفصل بين الرئيس عبد الناصر ويروفييف سفير الاتحاد السوفييتي في القاهرة في الثالث من ديسمبر 1960 وهو ما أوجزه الاخير في رسالته التي بعث بها 17 ديسمبر 1960 تحت رقم 567 ، وقال فيها ان الجانبين تبادلا وجهات النظر حول مشروعي القرارين المقدمين الى الاممالمتحدة من جانب الاتحاد السوفييتي والهند حول حقوق الشعوب المستعمرة في الاستقلال. ومضى السفير السوفييتي ليقول: " تطرق الحديث الى الاوضاع في الكونغو وآفاق تطورها . وقال ناصر انه وقبل طرد سفارة "ج ع م" من الكونغو وكان كاسافوبو يضغط في هذا الاتجاه منذ ما قبل رحيل لومومبا عن ليوبولدفيل، بعث الى كل من نهرو ونكروما وسوكارنو وامبراطور اثيوبيا والجنرال عبود وملك المغرب ورئيس حكومة الصومال برسائل يسأل فيها عما يمكن اتخاذه من خطوات للحفاظ على استقلال الكونغو. وسأل مباشرة عما اذا كان يمكن دعوة البرلمان الى الانعقاد. وقال ان اجابة نهرو لم تكن مشجعة بالنسبة للومومبا، لان نهرو انطلق في موقفه من ان الجمعية العامة للامم المتحدة صوتت مع شرعية انتقال مقعد الكونغو الى كاسافوبو، ولذا فان اية اقتراحات تستهدف دعم مواقع لومومبا ستفشل ، فضلا عن ان اية محاولات تعنى اعلان الحرب ضد كاسافوبو كرئيس لدولة الكونغو التي تحظى باعتراف الاممالمتحدة. واشار الى ضعف مواقع دول عدم الانحياز تجاه هذا الشأن وان اي عمل في اتجاه دعم لومومبا يعني عمليا التدخل في الشئون الداخلية".