ربما كان اسمه من أوائل الأسماء التي وقعت على مسامعي منذ الطفولة بعد أسماء إخوتي والعائلة! ف"لومومبا" كان من أكثر الأسماء ألفة بأذني؛ إذ كان منزل جدتي الذي أتذكر منه علامات ضعيفة من الذاكرة يجاور منزل جيران من أصول إفريقية، وكنت دوما أسمع خالي يمازح جاره إذ يناديه ب"لومومبا".. وهو ما دفعني -بعد أن صرت أكثر وعيا- لمعرفة ما يعنيه هذا الاسم.. وكان أول الأسماء التي تطرق الذاكرة للحديث عنها في بروفايل. إيقاظ الكونغو على طريقة مصطفى كامل "ولد باتريس لومومبا عام 1925 في "ستانليفيل" بمقاطعة الكونغو الشرقية، وينتمي إلى قبيلة "باتيليلا"، وهي جزء من قبيلة "المونغو"، كان "لومومبا" مهموما بشأن بلاده منذ صباه، وبما يعانيه الكونغو -أو زائير في ذلك الوقت- من ظلم وسيطرة الاحتلال البلجيكي، واستيلائه على ثروات بلاده الطبيعية، وغنى تربتها الشهيرة بالمعادن النفيسة وبالماس. بدأ "لومومبا" في توعية شعبه عن طريق مقالاته الثائرة والمحترقة من نار الاحتلال، تماما كما كان يفعل مصطفى كامل ضدّ الاحتلال الانجليزي في مصر، كان "لومومبا" يحثّ الجماهير بخطبه النارية وبمقالاته الحماسية في الصحف المحلية والخارجية، يشرح فيها جرائم البلجيك ضد شعبه وبلده، معتمدا على البراهين والأدلّة المستقاة من ملاحظاته والتقارير والإحصاءات الصادرة من الأوساط البلجيكية حول الأموال الطائلة التي هرّبها المستعمر إلى بلجيكا. وبطبيعة الحال لم يكن الاستعمار ليرضى عن ذلك، فقام البلجيكيون بسجنه مرتين وتعذيبه بشدة؛ لعله يرجع عن مقالاته ونضاله.. ولكنه بعد خروجه من السجن يعيد الكرّة، وكان يعتمد في كسب عيشه آنذاك على العمل كبائع للبيرة وموزّع للبريد. عندما يتحدث المحتل عن جهوده في مص دماء المُستعمر! وأمام قوة "لومومبا" النفسية التي تنمو يوما بعد يوم عرض البلجيكيون عليه حلا ديمقراطي الديكور؛ حتى يزول عن رؤوسهم صداعه، وهو إجراء استفتاء شعبي، وترك الأمر للشعب يقرّر مصيره، معتمدين على العمالة الداخلية بالبلاد وتزوير الانتخابات الحتمي؛ لكن النتيجة كانت مفاجئة، وانقلب السحر على الساحر حيث حصل "لومومبا" على حوالي 90% من الأصوات، رغم الجهود المستميتة التي بذلتها قوى الشر للتلاعب بنتائج الانتخابات. ومن ثم أمام الرأي العام الأوروبي لم يجد البلجيكيون سوى الرضوخ لما جرى، والتعامل معه لاحقا، وصار "لومومبا" رئيسا لوزراء حكومة الكونغو الفتية، وجرت في العاصمة كينشاسا حفلة كبرى؛ ابتهاجا بالاستقلال في يوم 30/ 6/ 1960، وكان منصب رئيس الوزراء هو المتحكّم في شئون البلاد؛ حيث يُعتبر منصب الرئيس منصبا شرفيا، خاصة أن الرئيس آنذاك كان يُحابي الاحتلال على حساب شعبه. وحدث ما لم يتوقعه أحد بالحفل، إذ أراد رئيس وزراء بلجيكا إلقاء كلمته، فمنعه "لومومبا" بخفة ظل؛ لأن اسمه غير مدوّن على قائمة المتحدّثين، وزاد الطين بلّة عندما ألقى ملك بلجيكا كلمته، والتي أفرد فيها الكثير من الوقت للحديث عما ضحّت به بلجيكا من مال ودماء أبنائها لمصلحة الكونغو! وهو ما أثار غيظ "لومومبا" بالطبع، فتخيّل موقفك حين يُخبرك محتلّك بكل تبجّح أنه تحمّل كل الصعاب لاحتلالك وامتصاص دمك، بل ويطالبك بالتعاطف معه! هنا ألقى "لومومبا" خطبته الشهيرة مستندا إلى تقارير وإحصاءات عملها البلجيك أنفسهم تشير بوضوح إلى كميات الثروات التي نهبها البلجيك من الكونغو، أي فعل ما يقال عندنا في العامية "كرسي في الكلوبّ"! وهنا ساد صمت مطبق ما عدا همس بين ملك البلجيك ورئيس وزرائه، ولم يعد خفيا على أحد ما أضمروه من قرار التخلّص منه. عندما يتضح أن الديمقراطية تمثيلية وتحترق الدبلوماسية! بعد ثلاثة أيام من الحفل دخل جيش بلجيكي إلى الكونغو عن طريق مصبّ نهر زائير، ووصل إلى العاصمة كينشاسا، وفي نيته تنفيذ خطة مبينة ضد لومومبا. في 11/ 7/ 1960 أعلن عميل البلجيك "موييس جومبي" انفصال إقليم "كاناتجا" عن حكومة الكونغو الجديدة، وتمّ ذلك بمساعدة وإسناد الجيش البلجيكي. استنجد لومومبا بالاتحاد السوفيتي، ولكن السوفييت رفضوا مساعدته، ثم طلب منهم فقط إعارته بضع طائرات حاملة الجنود لنقل ما بقي من جيش إلى "كاتانجا" لتحريرها، ورُفض هذا الطلب أيضا، فاضطر لومومبا إلى اللجوء إلى هيئة الأممالمتحدة، واستجابت لطلبه ظاهريا، وأرسلت 200 ألف جندي إلى الكونغو؛ بهدف تحرير "كاتانجا"، وإرجاعها إلى الحكومة، لكن الجيش العملاق مُنِي بالفشل، وكان رئيس الجمهورية "كازا فوبو" قد غضّ الطرف عن انفصال إقليم "كاتانجا"، بل إنه كان يؤيده، والأكثر من ذلك أن سكرتير هيئة الأمم "داج همرشولد" آنذاك توجّه إلى "كاتانجا"؛ للتفاوض مع "جومبي" حول انسحابه من الإقليم، ولكن طائرة السكرتير قد أُسقطت وسط الغابات، ومات سكرتير للأمم المتحدة. الثائر الشاب.. الذي عاش بالحرية وقتله الظلم والعذاب أصدر الرئيس أمرا بعزل "لومومبا" عن منصبه، ومن ثم شعر بأنه قاب قوسين أو أدنى من الاغتيال، فاستنجد بالأممالمتحدة، لكنها غضّت الطرف عنه، وحاول اللجوء لأنصاره في الغابات الممطرة لكن أحد أعوانه السابقين، والذي انقلب ضده وهو العقيد "موبوتو" استطاع القبض عليه، وتسليمه إلى "جومبي" الذي سلّمه فورا إلى الجيش البلجيكي. نقله الجيش البلجيكي بسيارة مسلّحة، وهو مكبل بالقيود والحبال، وألقوه على أرضية السيارة، وأحذية الجنود الثقيلة تضرب رأسه وتركل بطنه طوال الطريق المتّجه نحو أعماق الغابات، وفي الطريق توقّفت السيارة المسلّحة عند منطقة مأهولة للتبضّع، وصادف الأمر أن مراسلا صحفيا أمريكيا كان متواجدا في تلك المنطقة، وشاهد بعينه "لومومبا" وهو مكبّل وملقى على أرضية السيارة، وآثار التعذيب الجسدي واضحة على رأسه وجسده، ثم اتجهت السيارة المسلّحة إلى ممر مجهول في أعماق الغابة، وقُتِل "لومومبا" حيث لم يشهد مقتله أحد، ولا يُعرف قبره حتى الآن، في قصة شبيهة بشهيد آخر للحرية وضحية الاحتلال والإمبريالية وهو "جيفارا"، والذي قتلته الخيانة كما هي العادة مع أغلب أبطال التحرير. والتاريخ يعيد نفسه في فيتنام والعراق وغيرها؛ نفس مفهوم القوى الاستعمارية، وإن اختلفت أسماؤها، لكنها ثابتة على امتصاص دماء الشعوب الأضعف، ولا يقوى أبناؤها على الاستياء حتى! ونفس موقف الأممالمتحدة المتخاذل يتكرر في صوره المتعددة؛ خنوع غريب وضعف غير مبرر منها، ومواقف لا تسمن ولا تغني من جوع، في كيل بمكيالين شديد الوضوح. في كل مرة أستعيد تاريخ "لومومبا" أشعر بالدموع تترقرق في عيني؛ نهايته شديدة المأساوية، ونضاله الصادق، وقوته النفسية التي لا حدّ لها تثير في النفس كل ما تثيره.. وأدرك بالفعل أنه كان يستحقّ تلك الشهرة؛ لدرجة أن يكون من المفردات المألوفة في بيت جدتي في بلد تبعد آلاف الأميال عن قريته النائية في الكونغو.